بول ريكور.. في درس الاستعارة

عن بول ريكور في ذكرى رحيله الثانية عشر

20 مايو 2017
(ريكور)
+ الخط -
من زوايا عديدة يستعاد بول ريكور في ذكراه الثانية عشرة التي تحلّ اليوم؛ بداية من الفلسفة وآفاق التأويل التي فتحها في التاريخ والأدب والدين وصولاً إلى السياسة. كما يمكن أن يستعاد من خلال اشتغاله البلاغي، وهو ما يتقاطع مع سياقات عربية قديمة وراهنة.

شكَّلت الاستعارة مبحثاً شائكاً أعيى فهمُه نقدَةَ الكلام على مرِّ العصور، من المشَّائين في أروقة أثينا إلى المتناظرين في مجالس بغداد، حتى فلاسفة الأنوار في أوروبا، إذ جهد جميعهم في سَبْر أسرار بلاغتها ودلائل جماليتها. ومن أبرز مَن اهتم بها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 - 2005) الذي استعاد تاريخ النظر البلاغي، منذ نشأته لدى أرسطو، حتى مراحل اكتماله، ثم تجاوزه على يد المشتغلين بالدلائلية والأسلوبية في القرن العشرين.

احتل هذا السؤال المعرفي حيّزاً هاماً في مشاغله، وكان من ثِمار تأملاته كتابُ "الاستعارة الحية" الذي صدر سنة 1975 بعد أن كان قد ألقاه في صيغة محاضرات سنة 1971، على مدارج جامعة طورنتو. في هذا البحث الأصيل، يعرض خلاصة النظر الغربي إلى ظاهرة الصور البيانية، تحليلاً لأبنيتها، وتعليلاً لآثارها، بالاستناد إلى التراث البلاغي، وما أعقبه من تآليف في الألسنية والسيمولوجيا والنقد الأدبي، المنجزة في فرنسا وأميركا.

يرى ريكور أنَّ معالجة الاستعارة تعود إلى الحقبة الإغريقية، وفيها كان يُنظر إلى الكلمة المفردة على أنها محلُّ المجاز، ومناط انعقاده، ومجال اشتغاله. فاللفظ هو قِوام الصورة ومادتها الأصلية. وهي تنهض على مراعاة المشابهة حين تنقل معاني المفردات توسيعاً لها، أو سداً لثغرة في متن اللسان، وتعويضاً عن وحداتها المفتقدة.

ويعود الفضل إلى أرسطو الذي شيَّد نظريّته الشهيرة عن النقل، وهي تعتبر الاستعارة تحويلاً للمعاني، فيدلّ الجنس - حين يُنقَل معناه - على النوع، وهذا يحيل على الجِنس، وهكذا في تبادلٍ وانتقال لا ينفكان ضمن التوسع الدلالي الذي يطرأ على معاني الكَلِم. وقد حكم هذا التصوّر الأرسطي الخطابَ البلاغي الهليني والغربي حتى بدايات عصر الأنوار، فظلّ درس الصور البيانية يراوح بين مجاليْ البلاغة والشعرية، مع أن هدفيْهما متباينان: الإقناع بالخطابة، والمحاكاة للتأثير في النسيج الاجتماعي. والاستعارة أداة هذا وتلك، يستخدمها أهل الفن في تمثيلهم، كما يستعملها الساسة في خطاباتهم.

وقد وصلت هذه النظرية إلى نضجها مع بيار فونتانيي (1765- 1844) في تأليفه "صُور الخطاب" الذي صنّف، في ثناياه، الصور والاستعارات وبوَّبَها، معتبراً أنها تقوم جميعاً على مبدأ العُدول، وهو تحوُّل يجريه المتكلم على المعنى الأصلي للكلمة، الثابت في المعاجم، إلى معنى ثانٍ، ينبثق في الأقاويل الجمالية.

وأوضح ريكور أنَّ الذي حكم هذه أبحاثه هو التساؤل عن أسرار التوليد المجازي لتحديد معايير الصورة المبتكرة والاستعارة المستطرفة، مع اعتبار الكلمة دائماً مركز الجمال، بما هي حاملة للتوتّر الدلالي بين المعاني الأولى والصور الثواني التي تستدعيها.

يرى الفيلسوف الفرنسي أنَّ المنعطف الأكبر في تحليل آليات المجاز، هو الذي حققه عالم اللسانيات إيميل بنفينست (1902-1976) الذي عالج الاستعارة، لا بوصفها تسميةً عُدِل بها عن المعنى الحقيقي إلى معنًى ثانٍ، بل إسناداً تركيبياً وعلاقة نظمٍ بين الكلمات تزجيها معاني النحو، في تراكيب تخالف القواعد المألوفة دون أن تنتهكها، وتقع في حيّز الجملة ونظمها وليس في الكلمة المعزولة.

ولم يكن هذا المنعطف ممكناً - في رأي ريكور - لولا التمييز الجوهري بين علم الدلائلية sémantique التي تعتبر الجملة حاملةَ الدلالة الأدنى، والعلامية sémiotique التي تربط المعنى بالعلامة المفردة ضمن نسق العلامات اللغوية وغير اللغوية.

وفي نفس الخط المنهجي، شكلت البنيوية الفرنسية، ومن أعلامها رولان بارت (1915-1980) منعطفاً ثانياً في مسار فهم الاستعارة وتحليلها. فَفكّك مكوّناتها حسب مقولات البلاغة الجديدة وركز على مبدأ العُدول، لتعيين "الدرجة الصفر من البلاغة" وذلك من خلال تطبيق مبادئ البنيوية مثل التقابل والتقسيم والقيم الخلافية والتماثلية وغيرها في صياغة الصورة.

وبَيَّن ريكور، عبر الاستعادة النقدية لمسلمات رومان جاكسبون (1896-1982)، أنَّ الأساس في التنظير للاستعارة هو الوقوف على المشابهة وإدراك التماثل بين الأشياء المتباعدة، والإمساك بأسباب التوتر المستمر بين الهوية والاختلاف عبر رؤية "المماثِل في المتغايِر".

يعتقد صاحب "الزمان والسرد" أنَّه بفضل هذا التصوّر اللساني-البنيوي حصل الانتقال من اعتبار الكلمة مَعْقِدَ الاستعارة، إلى الجملة، ومنها إلى الخطاب، فلم تعد هذه الدراسات تشمل الاستعارة باعتبارها نقلاً لمعنى الكلمة، ولا تأليفاً لصورة عبر انتظامها في الجملة، بل بوصفها مولدةً لطاقة الخطاب الاستعاري على الإحالة الخارجية، وقدرته على استعادة الواقع وإنشائه، واكتشاف مجاليه عالَماً متخيلاً. وهنا تصير الاستعارة استراتجيةَ خطابٍ، تنمّي طاقة اللغة الاستكشافية، وتظهر اقتدارها على إعادة تشكيل الواقع.

ويرى ريكور أنَّ مثل هذا التصوّر يصطدم بفكرة أنَّ الخطابّ الشعري لا يقول شيئاً (حقيقياً) عن الواقع، ولا يستدعيه بشكلٍ مباشرٍ، وإنما يحيل على ذاته، وينادي مراجعه النصيَّة، مُشكلاً بذلك مَرجعيةً شعرية، يسميها رومان جاكبسون "المرجعية المُضاعفة"، لأنها تناظر الواقع وتعيد تمثيله.

هكذا ينتقل في النهاية دَرسُ المجاز، حسب الفيلسوف الفرنسي، إلى دائرة الهرمونيطيقا أو التأويل، فحللت الاستعارة بوصفها نموذجاً تخييلياً لفهم العالم وتأويله، مثل فهمه بنموذج العلم، الذي نظَّر له ماكس بلاك (1909-1988).

فلم تعد الكلمةُ محلَّ الاستعارة، ولا الجملة، ولا حتى النص، بل هو فعل الكينونة الحاضر-الغائب في كل مَلفوظ استعاري، فالشيء ليس غيره، ولا هو مثلَه بالكلية، بل له حقيقة وجودية مغايرة، وهذا هو الإشكال الفلسفي الذي دارت عليه أبحاث الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976).

يختم المؤلف أنَّ تأملاته هذه لا تهدف إلى تعويض علم البلاغة بالدلائلية، ولا استبدال هذه الأخيرة بالتأويلية، كما أنه لا يحاول الردَّ على إحداها بالأخرى، ولكنه يسعى فقط إلى تبرير كل مقاربةٍ داخل حدود الفنِّ الخاص بها، وإلى تأسيس الترابط النسقي لوجهات النظر على فكرة التدرج من اعتبار الكلمة مركز الاستعارة، فَالجملة ومنهما إلى الخطاب.

ولئن دقق ريكور في هذا الكتاب في قضايا المجاز وأجاد التأمل فيها، فإنه - ومع حذرنا من السقوط في المغالطات التاريخية - لا يبتعد، في الكثير من إجاباته، عما في التراث البلاغي العربي من نظريات.

ولعل آثار الجرجاني (ت. 1078)، وكلامه عن النظم ونقده للتصوّر الأرسطي عن النقل، وتأكيده أن الاستعارة "ادعاء وتخييل"، وكذلك تحليله لترابط الخطاب وتناسب مبانيه وغيرها عناصر ثرية من شأنها أن تساعد في استحداث نظرية عربية أصيلة عن الاستعارة: إذ كتب ريكور وفي ذهنه الأدب الغربي، وصاغ الجرجاني أسراره ودلائله وفي ذاكرته الشعر العربي والقرآن، ومِن هذه المتون المختلفة انبثقت عن فنِّ التصوير نظريات متباينة. ومزجُها اليوم كفيل باستكشاف "هوية جمالية" أصيلة-حداثية، تستلهم أدوات التحليل المعاصرة، وتحاور ذاكرة البيان العربي، وهذا من منابع الحياة في الاستعارة.

المساهمون