مكسيم غوركي.. أطول ممّا ينبغي

مكسيم غوركي.. أطول ممّا ينبغي

18 يونيو 2015
غوركي في بورتريه لـ نيقولاي بوغدانوف-بيلسكي
+ الخط -
لا أعرف، بالضبط، متى أدرك مكسيم غوركي أنه أطول مما يُسمح به لرجل حزين؛ لكني على ثقة أن ذلك حدث في أعقاب الثورة الروسية الأولى، ولدى لقائه الأول بفلاديمير إيليتش لينين، القصير القامة، والمبتهج في نوبة دماثة غايتها الترحيب بالكاتب الروسي الشهير، الذي كان انتسب للتو لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي، في جناحه البلشفي.

سيظل ألكسي مكسيمفيتش (غوركي)، بعد ذلك اللقاء، يتذكر أنه أطول مما يسمح به لرجل مثله، كلما رأى رجلاً يضحك؛ لذا، لم يكن من المستغرب أن يجد راحة استثنائية في الأماكن التي تحجب فيها الوجوه الأنثوية سحنات الرجال القصار القامة المبتهجين، الواثقين أنهم أمسكوا بتلابيب المعادلة، التي تجعلهم يتفوقون على الحياة، ويسيطرون على مسار التاريخ.

في وقت ما اكتشف ألكسي مكسيمفيتش (1868 -1936) أن المشاعر السلبية لا تستحق النبذ، فهي قد تكون أكثر دافعية، من غيرها، وقد تقود إلى شق مسارات إيجابية؛ وهذا سيفتح أمامه الطريق ليصل إلى قناعته الشهيرة التي عكسها بقوله الذائع: "إنني أقدّس الاستياء الذي يشعر به الإنسان من نفسه، فهو يدفعه إلى الأفضل"؛ ولكن سيكون عليه، بعد ذلك، أن يلاحظ أن هذا ما يسمّونه في العمل السياسي "النقد الذاتي"، وأنه بالقدر نفسه الذي يهتم فيه باستيائه من نفسه، يمارس لينين، والآخرون، "النقد الذاتي".

هذا التشابه، ما بين "الاستياء الذي يشعر به الإنسان من نفسه" و"النقد الذاتي"، سيظل يزعج ألكسي مكسيمفيتش؛ وسيشعر أن فيه شيئاً ما مخادعاً، يجعل من الممكن مساواة الحالة الأولى بالثانية، واعتبار الثانية صنواً للأولى، في ظلم واضح للإنسان الذي يشعر بـ"الاستياء من نفسه".

لا يطول الوقت بألكسي مكسيمفيتش حتى يدرك الفرق بوضوح، فيرى أن الإنسان حينما يشعر بالاستياء من نفسه يغرق في الحالة ويواجهها تماماً، إلى حد الألم. بينما "النقد الذاتي" الذي يمارسه السياسيون هو مخرج واع من موقف ووضع حرج، وأقرب ما يكون إلى حالة التملص من المسؤولية مقابل الإقرار والاعتراف بها؛ أي "صك غفران" ذاتي، وربما "علماني"، يُعفي صاحبه من مكابدة المشاعر المزعجة. ولكن ما يكون الإنسان من دون مشاعر، ومكابدة؟

ومسألة المشاعر هذه، كانت حساسة عند ألكسي مكسيمفيتش. ليس فقط لأنه عانى من يُتم مزدوج في طفولته المبكرة فقط، بل لأن الكلمات التي امتلك سرّها، جعلته يدرك أن المعاني تأخذ سياقها وفقاً للعواطف التي تثيرها المفردات، وأن اللغة بحر من المشاعر، وأمواجه الألم.

وهذا شيء سيبدو غريباً بالنسبة للناظر من بعيد إلى ألكسي مكسيمفيتش، الذي اشتهر عنه عدم احتفاله بالألم، ألمه الشخصي، سواء على المستوى العاطفي أو الجسدي. وهذه الحالة التي كانت تثير دهشة الآخرين، معوّضة في حقيقة أن "القصور" في الشعور بالألم الشخصي يقابله إفراط عاطفي بالشعور بألم الآخرين، فكانت تُبكيه آلام الناس ومن يعرفهم، رغم أن أصحابها أنفسهم لا يشعرون بها.

لقد عُرف عنه في السنوات الأخيرة من حياته، أنه كان أحياناً يرى شخصاً ما فتترقرق الدموع في عينيه مرة واحدة ويعزف عن الكلام. أو يُذكر إنسان أمامه، أو حادثة، أو ذكرى، في حديث اعتيادي، فيصمت، ويطول صمته، ثم يرى مجالسوه أن عينيه اغرورقتا بالدموع. لا ينشغل بألمه، ولكن يغرق بألم الآخرين!

إنها على ما يبدو إحدى أمراض مهنة الكتابة؛ إذ لا ينشغل الكاتب في ذروة نشاطه بنفسه، بل بشخصياته ومصيرها، ويشعر أنه مذنب بكل ما تكابده من عناء وألم. ولهذا، بالذات، كان الموت كمداً هو النهاية المثالية للكتاب المُجيدين.

والكتاب المُجيدون لا تطربهم ولا تخدعهم حالات "النقد الذاتي"، لكن تثيرهم الحياة في خضم الصراع ومكابدة الألم، التي هي سيرة الإنسان الحقيقية، وجوهر حياته، ومعنى وجوده، وسر بقائه نقياً في معدنه. وهذا ما يُمكِّنهم من تقديس "الاستياء الذي يشعر به الإنسان من نفسه، الذي يدفعهم إلى الأفضل".

لينين يلعب الشطرنج مع ألكسندر بوغدانوف في زيارة لهما لغوركي (1908)


أخيراً، لا يمكن أن أحشر نفسي هنا إلى جوار الكاتب الروسي والأديب السوفييتي الشهير من دون أن أثير شبهة غرور وخيلاء حول نفسي. ولكني مع ذلك سأفعل لسبب بسيط، هو أنني لا أقل طولاً عن ألكسي مكسيمفيتش، ولكنني مع ذلك لا أجد لليوم ذلك الرجل، القصير القامة، المبتهج، الذي يجعلني أشعر أنني أطول مما يُسمح به لرجل حزين!

ربما لأنني لست مثل ألكسي مكسيمفيتش، وبعيد عن أن أناهزه، أو أضاهيه، رغم التهمة "العاطفية" مع كل أدلتها الدامغة، وليس من الوارد أن أنافسه بالحظوة الفطرية عند النساء؛ إذ يبقى هناك في النهاية فرق شاسع بينه وبيني: هو رجل أنهى أعماله "بنجاح"، وصفّى حساباته مع الدنيا "باقتدار"، ثم مات. مات في اليوم نفسه، الذي رأيت أنا فيه، بعد عقود، وجه الدنيا التي ما تزال، إلى الآن، تحيرني.

ولطالما ارتبط الثامن عشر من يونيو، في أذهان الكثيرين في هذا العالم، بوفاة ألكسي مكسيمفيتش فيه، بينما أنا لا أستطيع مع كل حيلي البارعة والمتقنة، تنبيه حتى ابنتي الصغيرة أنه أيضاً يوم ميلادي، الذي تترقبه ويفوتها أن تتنبه إليه عاماً بعد عام.


* كاتب قصة من الأردن

المساهمون