عوني كرومي.. في ذكرى صاحب الطائر الحجري

عوني كرومي.. في ذكرى صاحب الطائر الحجري

21 يونيو 2015
إسماعيل الشيخلي / العراق
+ الخط -

عرفتُ عوني أفرام كرومي (1945- 2006) عن قرب، وحين مرّت ذكرى وفاته، مؤخراً، في ألمانيا وهو في ذروة تألقه كمفكر ومخرج مسرحي، تردّدَ في ذهني حديثه ذات أمسية ونحن مجتمعون حول مائدة ومصباح خافت الضوء.

كنتُ قد انتهيتُ من قراءة قصيدة عنوانها "أغنية الطائر الحجري" تبدأ بهذه السطور: "سأطلقُ كلّ ما فيكَ/ لتكونَ لي/ أيها الطائرُ الحجريّ/ يا صمتَ قيثارة ضائعةٍ/ في ضباب القرون".

وقلتُ حائراً، لا أعرف كيف ولدت فكرة هذا الطائر، ومن أين جاءت صورته وحطت بين السطور، فبدأ كرومي يتحدّث ويفسّر، وكأنه يردّ على حيرتي، وذكرني بذلك الطائر الملوّن المصنوع من الفخّار الذي كنا نشتريه صغاراً ونضع فيه قروشنا القليلة، فتذكرتُ بالفعل ما انطمسَ وكأنه لم يكن أبداً في يوم من الأيام، ذلك الطائر والأيام الممطرة في طفولة بعيدة. وعاد يحيا ويرتسم مع هذه الذكرى عالمٌ نشعر به إلا أنه يظل نائياً لا سبيل إليه.

واسترسل المخرج الفنان في حديثه عائداً إلى مشاهدَ من طفولته وطفولة أصدقائه، وأحسست أنه يؤلّف نصاً، ليس من ذكرى ذلك الطائر فقط، بل من ترابطات شتى بدأت تتوافد على شكل مشاهد مسرحية.

تذكّر أباه وعمّه، وسيرهما على الأقدام من الموصل إلى بغداد أثناء الحرب العالمية الأولى، وتذكّر أمه وهي تقطع عليهما الطريق وتحاول منعهما. لم يكن يرتجل، بل كان يعيد تأويل ماضيه في ضوء قصيدة لآخر لم يعرفه إلا حديثاً.

في تلك الأمسية تعرفتُ على كرومي كمبدع مسرحياتٍ من أبسط المواد؛ هو لم يكن بحاجة إلا لشرارة، ثم تضاء أنوار مسرحه، ويتوافد ممثلون من كل الجهات، وتتوالد نصوص من كلمة أو جملة أو صفحة في كتاب، وكأن الفنان فيه يرى في شظية من تمثال جسداً كاملاً، أو كأنه يسمع همسة فتتكاثر الهمسات وتتشكل حكاية.

ذلك هو ما سماه التأويل، ليس بالنسبة للمخرج فقط، بل وللممثل والمشاهد أيضاً. على كل منهم أن يقرأ الدور الذي سيقوم به بعفوية كأي قارئ، ثم يقرأ ويفهم أدوار الآخرين أيضاً، ويحدّد ثالثاً أبعاد المكان والزمان، وأبعاد الشخصيات المشاركة.

هذه هي الفكرة، فكرة التأويل، التي تجعل للنص المسرحي امتداداً في الزمان والمكان؛ كانت فكرة مبدعة على صعيد عمله وعلى صعيد نصيحته للممثلين، وصعيد علاقاته بالعالم من حوله؛ كل شيء قابل للتأويل، وبهذا يواصل الامتداد والحياة.

فلو سألنا كاتباً مسرحياً، وليكن شكسبير مثلاً، هل كتبتَ لزماننا أم عنّا؟ لكان جوابه بالنفي، إلا أننا نجعله كذلك حين نعيد قراءته، وحين نستنقذ ما فيه بأن نعيد تأويله، تماماً كما يحدث مع ذلك الطائر الحجري، طائر طفولتنا، الذي تحجّرت أغنيته، أي لم يعد ينتمي إلى زمننا، ونسيناه، وفجأة يستيقظ فينا كأنما من اللاشعور، ونحاول أن نطلق كلّ ما فيه ليكون لنا مرة أخرى. ترى هل أطلقت ثقافتنا المسرحية أغنية هذا الفنان التي تحجّرت بوفاته، هل أعادت تأويله؟ ومتى؟ وأين؟

دلالات

المساهمون