كاتدرائية غارقة في سيارة

كاتدرائية غارقة في سيارة

24 اغسطس 2016
("فتاة أوروبية" لـ كالين مولدوفان)
+ الخط -
إلى اليوم، لم أصادف أحداً يكره الانطباعية، فكرت وأنا أقود سيارة على الطريق السريع، كنت أسمع "كاتدرائية غارقة" لـ ديبوسي. يبدو أنها المدرسة المحبوبة لدى معظم متلقّي الفنون. من لا يحب مشاهدات مانيه ومونيه ورينوار وبيسارّو؟ حتى أولئك الشعراء الرمزيين، إنهم انطباعيون لم يطلق عليهم هذا اللقب بما يكفي وكما ينبغي؛ بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه.

الانطباعية توسّعت وامتدت إلى موسيقيين في سيارتي، كلود ديبوسي وموريس رافيل وغابرييل فوريه وأوتورينو رسبيغي وتشارلز غريف. "ضوء القمر" لديبوسي اشتهرت أكثر من أي مقطوعة أخرى، جمعت ثالوث بيتهوفن-شوبان-ديبوسي في بنائها، ثمة الصوت الغني والعميق لـ "الليليات" ذلك البساط الشوباني الذي تتوهم أن تحته باباً سرياً.

كذلك حضرت ضربات بيتهوفن، وتقلباته الموسيقية المثيرة والمفاجئة. المقطوعة قد تكون مدخلاً لفهم المدرسة الانطباعية في الموسيقى، لكن التمثيل الأفضل على هذه المدرسة سيكون في "إله الغابات ما بعد الظهيرة".

في عام 1894، كان ديبوسي يشعر بنقص عميق لأنه لم يؤلّف حتى تلك اللحظة مقطوعة أوركسترالية، وكانت قصيدة مالارميه التي كتبت سنة 1856 "إله الغابات ما بعد الظهيرة" ملهمة لمقطوعة موسيقية حملت العنوان نفسه.

كان مالارميه بمثابة الدليل الجمالي لديبوسي، إلى جانب الصداقة العميقة التي جمعت الموسيقي بالشاعر. فاليري يقول إن مالارميه كان مستاء، لأنه يعتقد أن موسيقاه الشعرية كافية. سيحضر مالارميه الحفل الأول، ويرسل إلى الموسيقي "خرجت من الحفل متأثراً، إنها أعجوبة! تنافرت مع النص من حيث أنه ذهب بعيداً فيه، في النوستالجيا، مع كثير من البراعة والشهوانية"؛ لا سيما وأن قصيدة "إله الغابات ما بعد الظهيرة" عن مخلوق نصفه بشر ونصفه حيوان يستيقظ من القيلوله شبقاً في نهار قائظ.

استخدم ديبوسي آلات نفخية مختلفة وكمانات، إلى جانب قيثارتين يستند عليهما كخلفية في الانزلاق من نوتة إلى أخرى، ثمة تتابع دوري بين الفلوت والكمان والمزمار والبوق، مع لمسات خفيفة لكل واحدة من الآلات من خلف الأخرى، في لحظة يفور الفلوت ويتصاعد معه الكمان، ثم يهبط الاثنان معاً.

زخرفة موسيقية من تتابعات سريعة في النوتات التي يمكن أن تردّد كل واحدة منها على حدة، ليس هناك بناء معتاد بل متعدّد، وهذا هو أساس التأليف الموسيقي الانطباعي.

في "أشرعة"، يحرّرني ديبوسي من الأثر الواضح، يحرّرني من النوتات نفسها، تنتهي من المقطوعة بأثر ضبابي؛ كل النغمات بعيدة عن بعضها بنفس المقدار، لا يوجد واحدة تظهر وتبرز عن سواها، تعلو واحدة وتنزل أخرى وتعلو غيرها، لتوحي أننا أمام مرساة يحاول أحد إلقاءها فترتطم كل مرة باتجاه.

تظل موسيقى ديبوسي تخرج معي من البيت، من غرامافون قديم أو لابتوب أو مسرح، تدخل في رواية لتوماس مان وأفلام برونو بوزيتو الكرتونية وألبومات الجاز وقطع الباليه، وفي سيارة على الطريق، وفي محاولات متعددة لإرساء النهار على قطعة هدوء بعد الظهيرة.


المساهمون