"التلقي بين الأدب والسينما": من هو الجمهور؟

"التلقي بين الأدب والسينما": من هو الجمهور؟

27 فبراير 2018
إيريك سيمون/ فرنسا
+ الخط -
في كتابها الأوّل؛ "التلقي بين الأدب والسينما"، الصادر مؤخراً عن "دار سليكي" في طنجة، تقتحم الباحثة المغربية جميلة عناب قضايا متشعّبة يفتح عليها اختيار موضوع التلقي للدراسة، وهو ما يستجيب لكثير من الأسئلة المتواترة، في المغرب وفي غيره من البلدان، والمرتبطة بنجاح الفيلم أو فشله، ومعايير تصنيف الأفلام. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن نذكّر بأن هذا الكتاب قد يكون أوّل إصدار مغربي في نقد السينما تقف خلفه امرأة.

بشكل عام، يمكن القول إن النقاش في المغرب لا يهدأ حول ما ينبغي تقديمه للجمهور. فبينما ينحاز النقّاد إلى التصوّر الجمالي الذي ينظر إلى الفيلم بحسب مقوماته الجمالية، يطغى نوع آخر من الأفلام ويحتلّ قاعات السينما، ضمن أعمال لا يلتزم أصحابها بمعايير لا يفتأ يتحدّث عنها النقّاد، في حين تجد أفلام التصوّر الأوّل مساحة عرض ضيّقة تكاد تنحصر في المهرجانات، ومع مرور الوقت تزداد الهوّة شساعة بين التصوّرين السابقين.

لكن العودة بالموضوع إلى مشرحة النقد لم يكن في الغالب تناولاً شمولياً ينظر إلى المسألة في بعدها الجمالي والتجاري معاً وفق ما تُمكّننا منه نظريات التلقي باختلاف تصوراتها للعلاقة الممكنة بين النص (بمفهومه العام) والقارئ وارتباطها بالأنواع الفيلمية. فكتاب "التلقي بين الأدب والسينما"، يقف بين التصوّرين السابقين ويعيد النظر في العديد من القضايا التي تؤطر التلقي السينمائي.

من جهة أخرى، يفتح الكتاب نقاشاً نقدياً لطالما واجه نقّاد السينما، عن إمكانية وحدود استعارة مفاهيم لسانية وفلسفية وأدبية أثناء التحليل الفيلمي. تقول الكاتبة: "إذا كنا نستند في وصف مكوّن التلقي في الإبداع المكتوب (قصة، رواية، شعر...) على عدد من المفاهيم المستمدة من الطبيعة الكتابية واللسانية، ومن حقول معرفية متعددة كالبلاغة أو السيميولوجيا أو علم النفس أو علم الاجتماع؛ فهل يمكن أن نوظّف نفس الجهاز المفاهيمي في دراستنا للتلقي على المستوى السينمائي (الصناعة، الإنتاج، التسويق...) وعلى المستوى الفيلمي باعتباره بعداً خطابياً، وبنية حكائية، ولغة فيلمية مركّبة، وعلاقات قولية قائمة بين ناظم الفيلم (المخرج) والمتلقي، ما دام التلقي، هنا، ذو تمظهر سمعي بصري مختلف عن الظواهر الأدبية؟ ألا تقتضي الطبيعة الفيلمية، وقنواتها المتعددة مقاربة من نوع خاص".

اختارت الكاتبة أن تجيب عن هذه القضايا بشكل متسلسل، فتقسّم كتابها إلى ثلاثة فصول، تخصّص كل فصل لقضية منها. في الفصل الأوّل، وهو بعنوان "نظريات التلقي في الأدب" يستدعي الكتاب أهم نظريات التلقي، مثل أفق الانتظار والمسافة الجمالية عند المنظر الأدبي الألماني هانس روبرت ياوس، والقارئ الضمني عند مواطنه فولفغانغ آيزر ونظرية أفعال الكلام من اللسانيات ونظريات أخرى من السيميولوجيا، وغيرها. يخلص الفصل إلى أن القراءة هي عملية داخلية محضة تشغل الإنسان ليقوم بفهم وإدراك وتأويل النص الأدبي، وتمكنه بالتالي من إعادة إنتاج معاني الأثر الأدبي.

وخصّصت الباحثة الفصل الثاني لـ"تلقي الفيلم السينمائي" (عنوان الفصل)، فميّزت بين مفهومي "السينمائي" و"الفيلمي"، أي بين المستوى التقني والمستوى الجمالي. هذا التمييز يمكّن القارئ من الوقوف عند حدود المستويين، وبالتالي فهم علاقات النجاح والانتشار وفق هذا التمييز، دون أن يلغي أحدهما الآخر. كما ربطت الباحثة بين الأنواع الفيلمية وأنواع المتلقين، كحال أفلام الحركة مثلاً، بحيث يمكننا أن نقابل بين كل نوع من الأفلام بصنف متلقين خاص به يتشكل مع الزمن.

ويعود مفهوم التلقي للظهور في الفصل الأخير من الكتاب؛ "تلقي الفيلم الروائي الطويل بالمغرب"، لكن بشكل أعمق، وذلك بالتركيز على أصناف من المتلقين في المغرب، بحيث ينظر كل صنف منهم إلى الفيلم من زاوية معيّنة. وعلى هذا الأساس تصبح كل الأنواع الفيلمية حاضرة، بحضور نوعية متلقين خاصّة بها، وهذا ما يؤدي إلى استمرار علاقة التجاور بين هذه الأنواع بل اندماجها في أشكال فيلمية كأن يحتمل فيلم ما تصنيفه تحت أكثر من نوع فيلمي.

يستمر منهج التصنيف أيضاً بتمييز الكتاب بين أنواع المتلقين، بحيث نجد المتلقي الناقد، الذي يتميز عن غيره في العادة بنوعية الكتابة التي ينجزها وتتصف غالباً بصفة الأكاديمية. ثم المتلقي المخرج، وهو مرتبط بالعلاقة المفترضة بين البنية والرؤية الجمالية والفنية التي يطرحها العمل الفني، أما النوع الثالث فهو المتلقي العام، المرتبط أساساً بمفهوم الجمهور السوسيولوجي المحكوم في تلقيه بسياقه الاجتماعي والثقافي والمعرفي والسياسي. كما نجد في هذا الفصل رصداً دقيقاً لمختلف أشكال التلقي بين القاعة سينمائية، والتلفزيون، والحواسيب، واللوحات الإلكترونية (...)، وهنا يستشعر الكتاب الاكتساح التكنولوجي الذي عرفته السينما سواء في عرض الأفلام أو في صناعتها.

تختار المؤلفة في نهاية عملها أن تفتح على إشكال أوسع: من هو جمهور السينما الحقيقي الآن؟ سؤال يبطن تحذيراً من طغيان أشكال تلقي جديدة على حساب صالة العرض باعتبارها الشكل الأصل، ويدعو إلى تربية الأجيال على حب السينما وحب العرض السينمائي وفق شروطه الجمالية.


أدوات تفكيك مهملة
يبدو كتاب "التلقي من الأدب إلى السينما"، مثله مثل الكتب النقدية أو الدراسات الجمالية، محكوماً عليه بمنطق "تلقٍّ" يحصر أعمال كهذه في جمهور متخصّص من السينمائيين والباحثين، في الوقت الذي تتيح فيه هذه الدراسات فرصة للجمهور كي يفهم بشكل أحسن ما يوجّهه له العمل الفني من خطاب، والأهم من ذلك توفّر هذه الأعمال أدوات يفكّك بها ميولاته التي قد لا تكون أكثر من استجابة لمؤثرات وتوجيهات.




المساهمون