"ما بعد بابل، الترجمة": يوتوبيا تواصل كوني

"ما بعد بابل، الترجمة": يوتوبيا تواصل كوني

16 مارس 2017
(من المعرض، مجسّم لبرج بابل، فلاديمير تاتلين، روسيا)
+ الخط -

في كتابه "أن نقول تقريباً نفس الشيء"، لا يحصر السيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 – 2016) ما نقصده بمفردة "الترجمة" بنقل نص من لغة إلى أخرى، بل يوسّع ذلك إلى ما يسميه بـ "ترجمة ما بين سيميولوجية" حين لا تكون الترجمة جسراً بين لغتين بل بين حاملين مختلفين من العلامات، يبقى المثال الأوضح عن ذلك هو الانتقال من نص سرديّ إلى شريط سينمائي.

لكن هذا التعريف واسع بحيث قد ينطبق حتى على عملية الانتقال من تاريخ نظريات إلى معرض، كما هو الحال بالنسبة لتظاهرة تقام حتى 20 من الشهر الجاري في متحف "ميسام" في مدينة مرسيليا الفرنسية، بعنوان "ما بعد بابل؛ الترجمة". بهذا المعنى، فإن المعرض محاولة لـ "ترجمة الترجمة" بصرياً.

ثمة طموح معلن للمعرض؛ تحويل الترجمة من عملية مغلقة، تقع بين ثلاثة عناصر: نص أصلي – مترجم – نص في اللغة الجديدة، إلى عملية مرئية بداية بتجميع أغراض المترجمين والمفكّرين المهتمّين بقضايا الترجمة (بعضهم يحملون الصفتين مثل إيكو ودريدا)، وصولاً إلى محاولة بناء سردية تاريخية حول فعل الترجمة بتفرّعاتها الميثولوجية والعلموية (نظريات علم الترجمة الحديث)، وتفسير مواطن الاصطدام بـ"ما هو غير قابل للترجمة"، والتي تحاول سينوغرافيا المعرض أن تبرزها كحدود ينبغي معها تطوير الأجهزة الفكرية لاستمرار عملية الترجمة/ التواصل.

منطلق الحكاية، هي بابل، وهي منتهاها أيضاً. إنها أسطورة تختزل حكاية الترجمة ومساراتها. تُضاء الأمثولة التي وردت في "سفر التكوين"، بشيء من الصياغة العلمانية: مشروع بشري ضخم لبناء برج يصل السماء، يجمع كل الناس في مملكة واحدة.

كان البنّاؤون في البداية يتحدّثون لغة واحدة، فتقدّم المشروع خطوات قبل أن تتعدّد ألسنتهم فيصطدموا بحدود التواصل بينهم ويعودوا إلى الأرض بانهيار بنيانهم. مع تشتت (بلبلة) الألسنة ستتحوّل الترجمة إلى ضرورة، بعبارة أخرى: ستولد.

بابل نفسها ستغلق الدائرة، حين يستعيرها مفكر من زمن ما بعد الحداثة؛ جاك دريدا (1930 – 2004) لتطبيق مقولات مدرسته التفكيكية على فعل الترجمة. معه صار "برج بابل" إلى "أبراج بابل" (عنوان محاضرة شهيرة له) ومنها ستتحوّل الترجمة إلى محاولة "ترميم" دائمة تعيشها البشرية.

بابل القديمة أو بابل المستحدثة أو المعرض الذي أشرفت عليه الباحثة في علم الترجمة باربرا كاسين، تبدو مثل انعكاسات لتوق إنساني شبه أزلي عن يوتوبيا تواصل كونيّ، رمزه بابل ولكن مسالكه تتنوّع بين الحضارات والتجارب (الإسبرانتو..) والنظريات الحديثة التي يمكن إحصاؤها في المعرض من الحرفية إلى الألسنية (فيناي، داربلنيه، مونان...) والهيرمينوطيقية (شتاينر، ريكور..) والتواصلية (هابرماس، ليدرير..) وغيرها.

يمكن أن نرى المعرض أيضاً كـ"ترجمة" لكتابين صدرا السنة الماضية؛ الأول يحمل عنوان المعرض نفسه، "ما بعد بابل؛ الترجمة" (منشورات آكت سود) لمجموعة باحثين فرنسيين في علم الترجمة، والثاني هو "مديح الترجمة" (منشورات فايارد) الذي وضعته المشرفة نفسها.

من خلال عملية توزيع محتوياته، يخلط المعرض بين أعمال فنية منها لوحات لمارك شاغال وأنطونان أرتو، وقرائن تاريخية مثل مجسّم "حجر رشيد" أو اختراع جورج أرتسروني الذي سمّاه "آلة الترجمة" في بدايات القرن العشرين.

كما يوقفنا المعرض أمام حالة من حالات الترجمة التي يكون فيها نص اللغة الجديدة حائزاً على القبول أكثر من الأصلي، كما في كتابات إدغار ألان بو، والتي يقدّم المعرض مخطوطات ترجمتها من قبل كل من شارل بودلير وستيفان مالارميه وأنطونان أرتو (الذي تحضر لوحاته أيضاً).

"ما بعد بابل" ليس أكثر من دعوة إلى التفكير من خلال النظر في مرآة عاكسة، وفي نفس الوقت في راهن تتجاوز فيه الترجمة كونها ضرورة عولمية، إلى اعتبارها صناعة ومؤسسة دولية ينبغي أن تقف في وجه كل "ما هو غير قابل للترجمة".

المساهمون