الأسير مويط.. فرنسي في قبضة قراصنة سلا عام 1670

الأسير مويط.. فرنسي في قبضة قراصنة سلا عام 1670

15 فبراير 2020
مدفع من زمن جمهورية بورقراق في سلا 1627- 1668(ويكيبيديا)
+ الخط -

كتبت النجاة للأسير الفرنسي مويط، الذي أسره قراصنة مغاربة في عرض البحر، بينما كان مع عدد من البحارة على ظهر سفينة سنة 1670، حيث أبحر من ميناء دييب متوجها إلى الهند الغربية، على ظهر السفينة التجارية "الملكية"، لكن في عرض البحر، تجري منازلة مع القراصنة السلاويين، الذين شكلوا في بداية حكم الدولة العلوية، ما سمي بجمهورية قراصنة بورقراق (1627- 1668)، وأعلنوا "الجهاد البحري"، هذه الحركة التي كانت تحاصر البحر الأبيض المتوسط من تونس إلى طنجة، ثم المحيط الأطلسي، على طوال الشواطئ المغربية.

وقد كان البحارة السلاويون من أنشط الفرق البحرية المغربية، بسبب خبرتهم الكبيرة في الأندلس، فأغلبهم جاؤوا هاربين من إسبانيا بعدما سقطت آخر معاقل حكمهم في الفردوس المفقود.

هكذا كانت مدينة سلا ميناء حراسة بامتياز، منها تنطلق سفن القراصنة المغاربة كي تخوض حروب استحواذ على السفن الفرنسية والهولندية والبريطانية والإسبانية. كان الأمر يتعلق بنزال بحري متقدم، في محاولة لرد الإنزال البري للأجانب، حيث عاش المغرب في تلك الفترة غياب سلطة سياسية موحدة، وكان يوجد في حالة ضعف وتفكك، اللهم إلا ما يتعلق بالثغور المحاربة، من قبيل أصيلة وتطوان وأزمور والوالدية وآسفي وأكادير، وقد كان مرفأ سلا المقدمة التي صاغت ملاحم مما كان يسمى وقتها بـ"حركة الجهاد البحري".

والفرنسي مويط، كان واحدا ممن أسروا في تلك المعارك والمنازلات، وقد اقتيد مع 40 آخرين من الأسرى من على ظهر سفينته إلى قلعة سلا، ومكث في سجن القلعة، حيث جرى بيعه في سوق نخاسة في مدينة الرباط الملاصقة لسلا، لأربعة أشخاص، ثلاثة من المسلمين ويهودي.

كانت تجارة الأسرى الأجانب مزدهرة في تلك الفترة، حيث يعمد عدد من التجار والوجهاء إلى "الاستثمار" في هؤلاء، خصوصا إذا كانوا من الأمراء أو الشخصيات المعروفة في بلدانها، إذ كانوا يرغمونهم على كتابة رسائل استعطاف وفدية إلى أهاليهم ونجدتهم، وغالبا ما كان يجري الافتداء بمبالغ مهمة.

وفي حالة التعسر، يمكث الأسير في بيت "سيده"، وقد يضطر السيد إلى بيعه إلى أسياد جدد، وربما يشترك أكثر من شخص في الشراء، بسبب "السعر العالي" للصفقة، ويصبح بالتالي، كما هو حال الأسير الفرنسي مويط، مملوكا لأربعة أشخاص، ومباعا إلى آخرين، وهي ظروف، بحسب وضعية أسياده الجدد، تتأرجح بين الدعة والشدة، رخاء الحياة وشظف العيش، مرميا في قاع "مطمورة"/ حفرة، يرمى إليه الخبز اليابس والقليل من الماء، في حالة بالغة السوء.. ثم قد يبتسم له الحظ فيجد نفسه خادما في قصر السلطان، وليس أي سلطان، بل هو المولى إسماعيل، أقوى السلاطين العلويين على الإطلاق، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي يعود إليه الفضل في التأسيس الثاني والرسمي للدولة العلوية، التي ما زالت تحكم المغرب إلى الآن.

لم يكن فك أسر مويط سهلا، فلقد انتظر طويلا، حوالي 11 عاما، كي يتحقق ذلك، ثم أنه لم يكن الأسير الذي تملك عائلته المال، وبالتالي فإن الرسائل التي وجهها من أجل افتدائه إلى عائلته وإلى أبناء وطنه في فرنسا، وإلى البعثات التبشيرية التي كانت نشيطة في موضوع الأسرى الأجانب، لم تجد تلك الرسائل من مجيب إلا بعد مدة طويلة، وقد جاء الأمر كله في إطار تسويات "دولية" مع الأوروبيين، فقد استطاع السلطان المولى إسماعيل، أن يجري مفاوضات شاقة وعسيرة مع الأوروبيين، ومنهم الفرنسيون، للتوصل إلى هدنة وسلام دائمين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتأمين السفن التجارية البحرية، ووضع نظام جديد من الضرائب على المرور البحري من كل الأطراف يسمح بتجارة آمنة وسلام، ولو أنه كان مؤقتا يلعب على ربح الوقت من قبل الأوروبيين، الذين سرعان ما تعاود أطماعهم الطفو على السطح، وسيتحقق لهم ذلك، بعد نزاع طويل وحروب، كانت آخرها حرب تطوان سنة 1860، التي ستبدأ بعدها الإملاءات الأجنبية، بعدما قام المغاربة بالاستيلاء على باخرة إسبانية، واغتالو دارمون، الوكيل القنصلي الإسباني بمدينة الجديدة.

هذا هو الجو التاريخي العام الذي أسر فيه الفرنسي مويط، والذي سيكتب بعد سنتين من الإفراج عنه رحلته كأسير ومملوك في بلاد المغرب. وقد جاءت الفكرة بعدما شاهد في باريس وصول سفير السلطان المولى إسماعيل، الحاج محمد تميم التطواني، واستقباله الفخم في بلاط لويس الرابع عشر.

وقد تفاوض السفير المغربي مع القصر الفرنسي لمدة ثلاثة أشهر، انتهت بإبرام معاهدة 29 يناير/ كانون الثاني 1682 بين المغرب وفرنسا.

يؤكد المؤرخ المغربي محمد حجي، الذي قام بترجمة الكتاب رفقة محمد الأخضر، في المقدمة، أن هذه الرحلة مهمة في أكثر من جانب، يقول "أما عن أهمية مادة مويط، فإن معظم الكتاب عبارة عن ارتسامات المؤلف ومشاهداته وحديثه مع الناس، أو روايات عن أسرى آخرين، قال إنه يثق بهم. ومما يلاحظ أن هذه المشاهدات والروايات لا تتناقض في معظمها لا مع منطق الأحداث ولا مع الواقع بالنسبة للثوابت، لذلك فهي في غاية الأهمية، لا سيما ما انفرد بتدوينه مما لا يثير اهتمام مؤرخينا عادة.

ومن أطرف مشاهدات صاحب الرحلة: طريقة القتال في البحر والاستيلاء على سفن الأعداء، كيفية بيع الأسرى بواسطة الدلال والمكان الذي يباعون فيه في الرباط، المطامير التي يحبس فيها الأسرى مع ذكر المقاييس وأعداد الأسرى وأجناسهم، دور الرهبان في افتداء الأسرى والمبالغ المقدمة، وصف المولى إسماعيل الدقيق، وصف الحياة داخل بيوت سلا وفاس والقصر الكبير، وتشدد المغاربة في عدم معاملة الأسرى ما داموا مسيحيين، ودعوتهم إلى اعتناق الإسلام عن طريق الترغيب والإغراء، لا سيما صغار الأسرى الذين ينشئونهم على الإسلام".


نكبات تعجب القارئ

من جهة أخرى، يوضح الفرنسي مويط الدوافع التي جعلته يقدم على تدوين ما عاشه في رحلته "القسرية" تلك، والتي ولا شك خلفت الكثير من الندوب في أعماقه، يقول: "لما كان ذكر النكبات لا يمنح السرور فقط لمن نجا، وإنما يعجب سردها حتى الذين يقرأونها، وحيث إنني قدمت تأريخ مولاي رشيد المعروف خاصة باسم ملك تافيلالت وتاريخ مولاي إسماعيل الحسني، ملك فاس ومراكش، الذي شاهدنا في العام الماضي سفراءه في باريس، فإن القارئ بعد اطلاعه على أحداث كبرى كهذه، سيكون راضيا عني إذا وافيته لا بأخبار استرقاقي فحسب، ولكن أيضا بمغامرات عدد من رفقاء محنتي لم أر أنها غير جديرة تماما بحب اطلاعه.
وسيشاهد، كما لو رسم ذلك في لوحة، قساوة الشعوب التي عشت بين ظهرانيها أسيرا قرابة أحد عشر عاما، وكان لدي متسع من الوقت لتعلم اللغتين الأكثر استعمالا هناك، أعني العربية والإسبانية".


وصف سلا

يكتب مويط في وصف سلا، التي وصلها أسيرا "أظن أنني لن أخرج عن الموضوع، إذا قمت بوصف موجز لمدينة سلا، إنها مشيدة على ضفة واد كرو المنحدر من جبال الزوايا (جبال الأطلس المتوسط)، الذي يقسمها إلى شطرين، شطر شمالي يسمى سلا بلغة البلاد و"صالي" بلغتنا، حيث يقيم أكبر التجار اليهود والمغاربة. تحيط بسلا أسوار متينة علوها عشرة أذرع تقريبا، وسمكها تسعة أو عشرة أشبار. مبنية بالتراب والرمل الأحمر المقوى بالجير المدكوك على طريقة البلاد. هذه الأسوار مجهزة بشرفات ومحصنة ببروج مربعة متينة. وكانت كلها تقريبا خربة..

ويسمى الشطر الجنوبي الرباط، ومداره أكبر من الشطر الآخر. وتوجد داخل هذه المدينة عدة بساتين وحقل كبير يمكن أن تزرع فيه حبوب لتغذية أكثر من ألف وخمسمائة شخص. أسوارها قديمة جدا، وحسب رواية البلاد، بنتها طائفة من المسيحيين الأولين أجازهم إلى أفريقيا خلفاء يعقوب المنصور، الذين فتحو إسبانيا. ونقلت طائفة أخرى إلى مراكش لبناء قنوات الماء الشهيرة التي ما زالت تشاهد فيها اليوم، وفي جهة الجنوب الشرقي، ربع الجنوب، برج عال يسمى حسان، ويستعمل لإرشاد السفن التي تريد أن ترسو هناك إلى معرفة الأرضية.

وفي سفح ذلك البرج تصنع السفن أو تساق لتقضي هناك فصل الشتاء. ويصعد ركوبا على الفرح إلى أعلى ذلك البرج، بالسهولة نفسها التي يصعد بها جبل، لأن مرقاته بدون درجات. وقد شيده بأمر من الملك نفسه مع مسجد كله خراب، المعلم نفسه الذي شيد البرج الشهير لمسجد آخر يستعمل كنيسة بإشبيلية في بلاد إسبانيا وللجامع الكبير بمراكش".


سوق المزايدات على الأسرى

يقدم مويط وصفا دقيقا لسوق النخاسة في الرباط، الذي بيع هو نفسه فيه مع عدد من الأسرى الأوروبيين الآخرين. وكما أن الحظوظ فيها الحسن والسيئ، فإنه من حسن أو سوء حظه، أنه سيكون ملكا لأربعة من "أسياده"، الذين سيصبرون عليه، حتى يقوموا ببيعه مرة أخرى بأضعاف ما اشتروه، أو سيطعمونه ويكسونه، بعد أن يرغموه على توجيه رسالة إلى أهله من أجل الافتداء، حتى يجنوا من وراء ذلك مالا وفيرا.

يكتب مويط "إنه بمجرد وصولنا إلى سلا، ذهبوا بنا إلى رب السفينة القرصنية، فاحتفظ بنا إلى يوم عيد جميع القديسين قبل أن نباع. قدم أولا قائد سفينتنا إلى العامل الذي احتفظ به كمملوك، وبعد ذلك أمسك الدلالون كل واحد منا بيده وأخذوا يسيرون بنا ورؤوسنا عارية على طول مساحة السوق، الذي يقام تحت قباب كبيرة تسمى قنانيط، وهي قريبة جدا من النهر، في جهة القصبة.

إن الذين يساومون على الأسرى يحضرونهم أمامهم، يفحصون سحناتهم وأكف أيديهم، حتى يعلموا من ذلك هل هم من أصحاب العمل، أو من أسر ميسورة. فإذا رأوا أحدا حسن اللون ناعم اليدين، عرفوا أنه غني وتزايدوا في ثمن ذلك البائس، على أمل أن يستخرجوا منه فدية ضخمة، إن كان من نصيبهم. وهذا ما يجعل الإفلات من أيديهم صعبا.

وقد بيع صاحبنا فارس مالطة والسيدة أمه بألف وخمسمائة ريال. أما أنا الذي بقيت آخر الجماعة، فاشتريت بستين وثلاثمائة ريال، بعدما طاف بي الدلال كثيرا وصاح (حراج، حراج)، ثم سلمت إلى سادتي، وكان عددهم أربعة. أخذني أحد غلمانهم إلى منزل عمومي ينزل فيه الأجانب مثل نُزُلنا بفرنسا، التي يسمونها فنادق.

جاء ثلاثة من سادتي الذين لم يكونوا يملكون مني سوى النصف، ليروني حالا، يسمى أكبرهم محمد المراكشي، وكان يستأجر غابات الملك. ويسمى الثاني محمد اليبوس تاجر الصوف والزيت، وهو رجل طيب كما عرفته في ما بعد. أما الثالث فكان يهوديا اسمه ربي يمين. فاشتروا لي بعض الأسمال، ثم ذهب بي المراكشي إلى منزله ليقدمني إلى زوجته. فأحضرت لي على الفور خبزا أبيض وسمنا وعسلا وقليلا من التمر والعنب الدمشقي، وهي تقول "كل، كل"، وبما أنني كنت جائعا لم آكل بعد، فسرعان ما أتيت على جميع ما قدمت لي. وأرادت أن تزيدني عندما رأت أنني أكلت كل شيء، لكنني أشرت إليها، برفع قبعتي، أنني اكتفيت".

ووسط هذا العذاب سيجد مويط من يواسيه، سيدة أندلسية زوجة أحد مالكيه، التي تعاطفت معه، وجعلته فردا من أفراد أسرتها، داعية إياه إلى الصبر والجلد، يقول "كانت تمتعني بخبز السميد الأبيض، والزبد الممزوج بالعسل، والفواكه حسب فصول السنة، وأزاحت عني سلسلة تزن خمسة وعشرين رطلا كان زوجها قد غلني بها، وكانت تناشدني أن أتحمل أسري بصبر، وحمتني من ضرب زوجها وسبابه، وطلبت مني مرارا أن أسلم لتبرهن لي أكثر عن محبتها، وتزوجني من إحدى بنات أخيها".

دلالات

المساهمون