علي الدوعاجي.. في ذاكرة الناس

علي الدوعاجي.. في ذاكرة الناس

13 يناير 2015
مقطع من بورتريه لطلال الناير
+ الخط -

بعد سنوات من الإعلان عن الاحتفاء بمئوية ميلاده، تصدر "دار الجنوب للنشر" المجلد الثاني من الأعمال الكاملة للكاتب التونسي علي الدوعاجي (1909 - 1949). ويضم هذا الجزء أشعاره وأزجاله وقصصه ورسومه، بعد أن كان الجزء الأول (2010) قد خصّص لأعماله المسرحية.

صدور هذه الأعمال يكفي للإشارة إلى تعدد مواهب الدوعاجي. فهو شاعر وروائي وقاص وزجال وفنان كاريكاتير، إضافة إلى أنه كان كاتباً صحافياً ومذيعاً أنتج عدة برامج، وساهم في تحرير مجلة "العالم الأدبي"، كما أسس جريدة "السرور" سنة 1936 وعرف بعموده الساخر فيها، "بالريشة والقلم".

يمكن وصف الدوعاجي، في حياته، بالعصامي، مثل أدبه تماماً. الرجل الذي كبر يتيماً لناحية الأب، ولم ينه مرحلة تعليمه الابتدائي، شرع مبكراً في تكوين ذاته بقراءة ما يقع بين يديه من عيون الأدب العربي والأدب الفرنسي. كما حفل بما أبدعته جماعة "أبولو"، وواظب على حضور المجالس الأدبية في المقاهي، وكذلك الندوات الفكرية. جالس العديد من الأدباء والفنانين والموسيقيين، مثل أبو القاسم الشابي وبيرم التونسي والطاهر الحداد وجلال بن عبد الله وعبد العزيز العروي والهادي الجويني وخميس ترنان والهادي التريكي والصادق ثريا... وكانت هذه الجماعة تعرف في تاريخ الأدب التونسي بجماعة "تحت السور"، نسبة إلى مقهى كان يلتئم فيه شملهم كل مساء.

في مجمل أدب الدوعاجي تتجلى روح الدعابة والتفكه. كان يتندّر بشخصيته النموذجية، "قلاديمة"، النابعة من صميم المجتمع، مشيداً بوظيفتها في التسلية: "يخفف عنه - أي المجتمع - تحمل العمل المضني وتحمل الوقت الصعب المأزوم".

كما نجد أصداء لاهتمامه بحياة عامة الناس، خصوصاً الطبقات المسحوقة، مبثوثة في أزجاله المعروفة. يقول: "الناس تعشق وأنا نغني، الناس تفرح وأنا نهني".

في كل اشتغالاته المختلفة، حاول الدوعاجي الارتقاء بالدارجة إلى ذرىً فنية خالصة، رافعاً إياها من مراتب الابتذال والإسفاف، كما يقول توفيق بكار في مقدمته لأعماله الكاملة. أما فصحاه، فقد كانت بليغة ودعامتها عدة أساليب ومحسنات بديعية، منها جمالية الصورة والإسهاب في الوصف وتكثيف الحوار.

ويصفه رفيق دربه، الأديب والزجال محمود بيرم التونسي، قائلاً: "صديقنا علي الدوعاجي فتى وهب عقله وقوته للفن، أو إن الفن افترسهما منه. وهو ككل فنان يعيش ليتفرج على الكون ثم يتناول ريشته وقلمه وينسخ أو يحاكي أو ينقح وينتقد".

وإذا تأملنا نصوصه من "بلاد الطررني" و"سهرت منه الليالي" إلى "أحلام حدّي"، نجد أن أدبه يتسم بالبساطة والعمق في آن، فله قدرة عجيبة على تحويل اليومي المألوف إلى سرد بليغ ومستظرف. وقد كان الدوعاجي يحوّل مشاهداته إلى مِلَحٍ ونوادر تأخذ الألباب. وكان ذلك دافعاً لأن تلقى قصائده القبول لدى المغنين والملحنين، ولرواج مسرحياته لدى الفرق التمثيلية، سيما فرقة الإذاعة الوطنية التونسية التي قضى فيها ساعات طويلة أمام المذياع يمتّع سامعيه.

ثراء تجربة الدوعاجي يتجلى أيضاً في استخدامه الريشة والألوان. ويبدو ذلك بوضوح في صفحات الجرائد اليومية والأسبوعية في تلك الفترة، حيث نشرت أقاصيصه مسلسلةً ومرفقة بالرسومات الكاريكاتيرية. وقد برع في هذا الفن أيضاً مجايلوه، مثل بيرم التونسي ومحمود الرباعي وغيرهما. وفي الواقع، ساهمت الصحف والدوريات المنشورة في حماية إبداعات الدوعاجي من الإهمال والتلف، حيث مثّلت مرجعاً أساسياً لجمع المادة الغزيرة للأعمال الكاملة، التي يتجاوز الجزء الواحد منها 400 صفحة من القطع الكبير.

وإذا كان هذا المتن النصي والفني ثرياً ومتنوعاً، فإن تكلفته كانت باهظة بالنسبة إلى الدوعاجي. إذ عاش حياة بوهيمية، مفضّلاً السهر والتسكع ليلاً على الخلود إلى فراش وثير دافئ. ويشير إلى ذلك عبد المجيد بوديدح في كتابه "أدب ونقد" قائلاً: "كان الدوعاجي قد جعل الليل معاشاً والنهار لباساً. يبدأ حياته على الساعة الخامسة مساء، وينهيها على الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إذ عندها يبدأ المطالعة والإنتاج إلى الصباح".

توفي الدوعاجي أعزبَ، منبوذاً، منسياً، مصاباً بمرض السل في مستشفى الرابطة في تونس العاصمة، متأثراً بفعل إدمانه تدخين الحشيش "التكروري" المسموح به في ذلك الوقت في الأماكن العامة. وقد مشى بعض خلّانه في جنازته التي صادفت يوماً مطيراً.

هو رجل أهدى الطرب إلى الناس، وجنى هو الكمد. ولذلك أطلق مقولته الشهيرة: "عاش يتمنى في عنبة، مات علقولوا عنقود/ ما يسعد فنان الغلبة، كان ما بين اللحود". ورغم عطائه الغزير في شتى الفنون والآداب، ظلّ لسان حال الدوعاجي يتردّد إلى اليوم قائلاً: "لاطلت اللي نحب نطولو، ولا كتبت اللي نحب نقولو". خسر كل شيء بما في ذلك حياته وهو لم يتجاوز الأربعين، غير أنه ربح شيئاً وحيداً عوّضه عن كل ما فاته: البقاء طويلاً في ذاكرة الناس.

المساهمون