الحارس الذي يقرع الأجراس

الحارس الذي يقرع الأجراس

21 مايو 2020
(عمل لرفيق مجذوب)
+ الخط -

يَظهر البشر بطبيعةٍ واحدة في الشارع، أمامَ المنزل وفي المنزل نفسهِ، وفي أماكن العمل. لكن في الروايات ليس شرطاً أنْ يَظهرَوا بشراً، لا لأنّ الأدب يشذّ بهم عن صورتهم التي وُلدوا بها، وإنّما لأنّ للأدبِ طرقاً عديدة من أجل أنْ يُحدِثَ تأثيراً. فعندما نقرأ عن إنسان تَحوّل إلى حشرة، يدفع الكاتبُ بذلك الإنسانَ إلى أن يعي كونه قد تَحوّل إلى حشرة أو يُطلَبُ منه، في نظام اقتصادي اجتماعي، التحوّل إلى حشرة. ولربما عبر وعيه ذاك يَدفعُ به إلى التفكير بإنسانيته.

باستخدام الاستعارات، للأدب القدرة على أن يحرّف طبيعة البشر، إذ يؤدي عبر تصوير بشرٍ، قد تغيّرت طبيعتهم، دور الاحتجاج والرفض. دور الحارس الذي يقرع الأجراس لينبّه البشر إلى ذواتهم الأصلية، وقد حرفتها أنماط العيش أو الأيديولوجيا. في هذا السياق، تمكن قراءة مصير غريغور سامسا في رواية "المسخ" لـ كافكا (1883-1924) وهو واحد من أشهر الشخصيات التي عرفها الأدب؛ ما إن استيقظ صباحاً وجد نفسه قد تحوّل، وهو في سريره، إلى حشرةٍ عملاقة. إنّ كافكا يردّ غريغور المُستَلب اقتصادياً إلى طبيعة مغايرة.

يعيش سامسا تحت ضغط العمل اليومي في جوٍ خالٍ من الود، يعمل من أجل رفاه الآخرين، بعدما استعبدوه برباط العائلة والواجب في جو من الجفاف العاطفي. عبر تغيير طبيعته، يضعه كافكا أمام حقيقته، إذ يختبئ غريغور تحت الأريكة، وذلك على الرغم من تصوير الغرفة عالية السقف. إلا أنّ كافكا يُظهِر "الضيق" حقيقةً لحياة البشر. إنّه يحثّ غريغور على التفكير بأنّه قد تحوّل بالنسبة لنفسهِ، كما بالنسبة إلى الآخرين، إلى حشرة عملاقة بعد استعبادهم إياه. وسوف تنتظر الأسرة، حتى الأم - وقد تغيّرت مشاعرها من العطف إلى الازدراء - موته، كي تنعم بالهدوء مرة أخرى.

تأخذ هذه المأثرة التي يتيح الأدب للكتّاب استخدامها بعداً سياسياً في رواية "قلب كلب" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) فالرواية التي كتبها مؤلفها إبان الثورة البلشفية (1917)، ولم تصدر حتى عام 1987، أرادها الكاتب إشعاراً بالإنسان الذي تحتاجه ومن ثمّ تنتجهُ الشيوعية، وهو الإنسان الذي يمتلك قلب كلب. إذ يزرع طبيب غدّة نخامية لشاب في جمجمة الكلب المتشرّد شارك، ليتحوّل شارك الكلب اللطيف إلى إنسانٍ وقح، وُصوليّ، يكتب التقارير ضد الطبيب الذي حوّله إلى إنسان.

يصيرُ شارك إنساناً بذيئاً متطفلاً على الآخرين، يجنّده عضو لجنة السكن في البناية ليجعل منه "رفيقاً" ويسلّمه منصباً رفيعاً يمارس من خلاله الأذى. ثمّ ما إنْ يضيق الدكتور بهِ، جراء سوء سلوكهِ، ينزع منه الغدة النخامية، ليعود شارك الكلب اللطيف مستحق الدلال. ينقل بولغاكوف عبر الحبكة البسيطة في روايته الهجائية التقلّبات السياسية التي سوف يعرفها الاتحاد السوفييتي. فالكاتب هنا، تلاعب بطبيعة شخصيته؛ ليخلق ويصحح خلقهُ، يبني النظام ومن ثمّ يفككه. فالعملية المخبرية التي أنتجت شارك، هي سبر لمثالب النظام الاشتراكي.

تجمع العملين روحٌ ساخرة، هجائية النبرة في نص بولغاكوف، وقاتمة في نص كافكا. يلقي الكاتبان، عبر النصّين الساخرين، مزحة؛ عن إنسانٍ صار حشرة، وكلبٍ صار إنساناً. لكنّ المبرّرات الواقعية التي تقف وراء هذه التحولات أو تدفع إليها، تجعل من المزحة كابوساً. لنجد قارئاً مُستلباً اقتصادياً يُعامَل بلا عاطفة، يتساءل إن كان بالفعل يعيش حياة الحشرات؟ ولنجد قارئاً آخر يحيا وسط طُفيليّات تُشكّل نظاماً سياسياً يَحطّ من الكفاءة في الوصول، يتساءل إن كان يعيشُ وسط البشر أم الكلاب. عبر استعارات، من هذا النوع، يَصدمُ الأدب الوعي ويُنعِشُ الكاتب الحسّ.


* كاتب من سورية

المساهمون