"كومانشيريا": حديث لتعرية أميركا

"كومانشيريا": حديث لتعرية أميركا

03 أكتوبر 2016
من الفيلم
+ الخط -

تحتفل الصحافة النقدية السينمائية في الغرب بالفيلم الجديد، الذي يُترجَم عنوانه الإنكليزي إلى العربية، حرفياً، بـ "جحيم أو مياه عالية". العنوان الفرنسي مختلفٌ: "كومانشيريا"، علماً أنه العنوان الأساسي للمشروع برمّته، المستعار من اسم منطقة يسكنها أفراد القبيلة الهندية "كومانش"، قبل العام 1860، وهي تمتدّ حالياً على مساحة "المكسيك الجديدة" وغرب "تكساس"، وبعض المناطق المحيطة بهما.

فيلمٌ يدعو إلى التأمل الهادئ، المنبثق من جمالية الفعل السينمائي، ومن حيوية النصّ المكتوب، ومن براعة الترجمة البصرية لحالاتٍ وانفعالاتٍ ومساراتٍ وحكاياتٍ، ولتشابكاتٍ معقّدة بين الواقعيّ والإنسانيّ، ولتداخلٍ سينمائيّ سويّ بين أنواعٍ، لا يزال بعضها حاضراً في الوعي الثقافي لسينمائيين مختلفي الجنسيات والأساليب، كالـ "ويسترن" و"أفلام الطريق". فيلمٌ يدعو إلى اكتشاف متعة إضافية للمُشاهدة والمتابعة، ولمُشاركةٍ حسيّةٍ في بناء عوالم، وتشييد مناخات. وفي الوقت نفسه، يدعو إلى التنبّه، مجدّداً، إلى معنى الأداء التمثيلي، الذي يحتال على المُشاهد، إذْ يبدو ـ لوهلة أولى ـ عاديّا للغاية، لكنه ـ بعد حين ـ يكشف عن تمكُّنٍ متين للبنية الدرامية، في تقديم الشخصية وتفاصيلها وحالاتها، وكيفية تواصلها مع ذاتها والآخرين.

البريطاني (الاسكتلنديّ) ديفيد ماكنزي (1966) يُنجز فيلمه الجديد هذا، بناء على سيناريو لتايلور شيريدان، الممثل والسيناريست والمخرج الأميركي المولود في تكساس نفسها. هذا يعني أن أموراً عديدة تلتقي في لحظة واحدة، ينتج عنها فيلمٌ بديع: سيناريو متماسك البناء الدرامي والسرديّ، وممتلئ بتشويق مبطن، وبمفردات تقنية تتعلّق بأنماط سينمائية مختلفة، بالإضافة إلى اختيارٍ موفّق لممثلين يبدون ـ أثناء تأديتهم أدواراً وشخصيات تتناقض شكلاً، وتكاد تتشابه مضموناً على مستوى الخراب المعتمل في ذاتٍ وروحٍ ـ كأنهم "يتبارزون" في التمثيل، ويتكاملون في قول الحكاية وامتداداتها وأجوائها وعصبها السرديّ.

لكن الحبكة مبنية على قصّة عادية: شقيقان يسرقان مصارف محلية صغيرة، لأن أحدهما يسعى إلى جمع المال اللازم لتسديد دينٍ لمصرفٍ، يريد الانقضاض على مُلكية خاصّة بالعائلة، هي (المُلكية) منبعٌ لنفطٍ في بعض أراضيها. أما ثانيهما، فلصّ سابق، ما إن يخرج من السجن حتى يجد نفسه معنيّاً بمساعدة شقيقه في مهمّته هذه. في المقابل، هناك شرطيّ مسؤول عن "فرقة جوّالي تكساس"، سيُحال على التقاعد بعد أسابيع قليلة، يجد نفسه إلى جانب مرافقه ذي الأصول الهندية المكسيكية، في مطاردة ميدانية للشقيقين، تنتهي بمقتل أحدهما، و"نجاة" ثانيهما من كلّ تهمة وموت.

مطاردة هادئة، تحتوي على عنفٍ ظاهر قليل، لن يحجب شدّة العنف الداخلي، في ذوات الشخصيات، كما في أعماق الحالات والمسارات والعلاقات. كما أنه لن يحجب قوّة النقد السجاليّ المتعلّق بأحوال أميركا اليوم: سطوة المصارف على الطبقتين الوسطى والفقيرة، التي تدفع كثيرين إلى خيارات عنفية فردية، لحماية حقوقٍ تريد المصارف نفسها تجريد أصحابها منها. أكثر من ذلك: الارتباك الاجتماعي، وانعدام أفق خلاص، وتنامي ظاهرة العنصرية، المُصوَّرة في الفيلم بألفة وهدوء لا يمنعان من التنبّه إلى حضورها القوي في الوجدان والواقع والراهن الأميركي. والعنصرية هذه تظهر في التعليقات اللاذعة لماركوس هاملتن (جف بريدجز)، مسؤول "فرقة جوّالي تكساس"، التي يسوقها لمرافقه ونائبه ألبرتو باركر (جيل برمنغهام)، المتحدّر من أصول هندية مكسيكية.

يقول ديفيد ماكنزي إن بين الأنواع السينمائية الحاضرة في الفيلم (ويسترن، فيلم طريق، دراما عائلية، وغيرها)، ينبثق ما يُمكن اعتباره أساس البناء الحكائي السردي: "هناك انعكاسٌ مشترك لمواضيع الحياة الأميركية المعاصرة: العرق/ السلالة، الأسلحة، التعسف المصرفي، خسارة الغرب القديم وقِيَمه، ميوعة العائلات والمجتمع، الحاجة إلى الإمساك بزمام الأمور، شخصياً". يُضيف أنه كأجنبي، لديه "امتياز إظهار صورة شاملة عن هذه الأمّة، خلال عام الانتخابات هذا".

خارج كل إسقاط اجتماعي ـ ثقافي ـ إنساني ـ اقتصادي، تكمن أهمية المُشاهدة في التناقض الواضح بين بساطة الشكل وقوة المضمون، من دون تناسي السلاسة الدرامية للسرد، المحمَّلة بكَمٍ هائل من الانتقادات والإشارات والتوجّهات الخفيّة، المتعلّقة كلّها بوقائع مُعاشة وحيّة. فالاحتفال الصحافي النقدي متأتٍ من كون "جحيم أو مياه عالية ـ كومانشيريا" فيلماً سينمائياً بامتياز، ومن قدرته على إبهار المُشاهد، وتحريضه على التنبّه إلى دقائق بنائه السردي، وحثّه على التأمّل في أحوال أميركا، من خلال مفردات سينمائية متداولة في صناعة الصورة الأميركية، المستمرة في تفكيك أحوال البلد واجتماعه واقتصاده، من خلال جماليات بصرية، تُسخِّر الأنواع في خدمة الصورة ونقائها الفني الإبداعي، وفي خدمة التمثيل، الذي يُضيف على الفيلم جماليات أخرى، بفضل ممثلين يتفاوت حضورهم في المشهد العام بين "نجومية" معروفة (بريدجز) وتمثيل يليق بالمهنة وأحاسيسها وتقنياتها وحيويتها وجمالياتها (برمنغهام، والممثلان كريس باين وبن فوستر، في شخصيتي الأخوين توبي وتانّر هاورد). "كومانشيريا" إضافة سينمائية جميلة.


دلالات

المساهمون