المتنبي.. الشعر حين تملّ الناسُ الحرب

المتنبي.. الشعر حين تملّ الناسُ الحرب

26 مايو 2018
(رمال متحركة)
+ الخط -

غيري بأكثَرِ هذا الناسِ ينخدِعُ...إن قاتلوا جَبُنوا أو حَدَّثوا شَجُعوا
أهلُ الحَفيظَةِ إلّا أن تُجرِّبُهُم...وفي التجاربِ بعدَ الغَيِّ ما يَزَعُ
المتنبي

إذا عدنا إلى مقالنا السابق، المنشور في هذه الصفحة ذاتها (عدد السبت 12 مايو/أيار الجاري)، وهي عودة لازمة من أجل متابعة الكيفية التي تورّط بها شاعر مثل أبي الطبيب بإدانة وتشويه سمعة ضحايا جنودٍ قضوا في معركة من المعارك التي كان قد خاضها سيف الدولة الحمداني ضد الروم، فسيكون تحت ناظرينا بعض دواعي هذا التورط. سنستشف أن الشاعر كان قد قدّم إفادتين مختلفتين عن أولئك الضحايا.

سنكون أمام إفادتين؛ الأولى، وهي الأكثر رواجاً، ستكون شعرية متمثلة بقصيدة المتنبي موضوع مقالنا، وفيها إدانة مبالغة في تعسفها، والثانية هي نثرية، وكانت كلاماً مما رواه المتنبي لصديقه ابن جني، وربما لسواه أيضاً، عن داعي مصرع عدد من الجنود الذين أُسروا وقتلوا في تلك المعركة، وهي إفادة لا يتحمّل الضحايا بمقتضاها ذنباً.

ينقل ابن جني، وكان في معرض شرح عينية المتنبي (غيري بأَكثرِ هذا الناسِ ينخدِعُ)، عن الشاعر نفسه كلامه عن ظرف كتابة هذه القصيدة، عما حصل في الواقعة التي تتحدث عنها القصيدة، يقول ابن جني في الفتح الوهبي: "حدّثني المتنبي، قال: لما هزم سيفُ الدولة الدمستقَ، وقتل أصحابَه، جاء المسلمون إلى القتلى يتخللونهم وينظرون من كان به رمق قتلوه، فبينا هم كذلك أكبّ المشركون على المسلمين فقتلوهم لاشتغال سيف الدولة عنهم". في هذه الرواية يكون هؤلاء المسلمون بمهمة، من غير الواضح ما إذا كانوا مكلّفين بها أو هم بادروا إليها، لكنهم في كل حال بمهمة حربية، ولم يكونوا منهزمين. وبهذه الرواية أيضاً فإن سيف الدولة، القائد، كان منشغلاً عن هؤلاء الجنود.

رواية ابن جني تقترب بصيغة ما من راوية أخرى جاء بها الأحسائي عن علي بن عيسى الربعي، حيث يقول: "إنّ أبا الطيب قال: غبرت في تلك الليلة فرأيت جماعة من المسلمين قد ناموا بين قتلى الروم، من شدة الحال التي أصابتهم، ورأيت قوماً منهم يحركون القتلى فمن وجدوا فيه رمقاً أماتوه فلذلك قال هذا". وكان يشير بهذا إلى شرح بيت المتنبي في القصيدة نفسها:
وجدتُموهُم نياماً في دمائِكُمُ، كأَنَّ قتلاكمُ إيّاهُمُ فَجَعوا.

وسيكون واضحاً بموجب الروايتين أن المتنبي كان على بيّنة من أن أولئك الجند الذين قُتلوا لم يكونوا متخاذلين، وأن الأمير كان منشغلا عنهم حينما جرى تطويقهم، ولم يكن هو من أسلمهم لعدوه. وهذان موقفان سيكونان بخلاف ما كتب المتنبي عن ذلك بإفادته الشعرية، بالقصيدة التي ركّزت في جانب أساس منها على مشكلة هؤلاء الجند الذين سمتّهم القصيدة بـ (المسلَمين)، أي الذين تركهم سيف الدولة وأسلمهم لجيش العدو، بفعل جبنهم وتخاذلهم وعدم سماعهم قوله، لينتقم منهم.

يقول واحد من التعاريف التي جرى بها شرح الواقعة ومناسبة القصيدة (ديوان أبي الطيب المتنبي، بتحقيق وتعليق الدكتور عبدالوهاب عزام) ما يلي: "وجاءه (الضمير يعود إلى سيف الدولة) العدوُّ آخر النهار من خلفه وقاتله إلى العشاء، وأظلم الليل وتسلل أصحابُ سيف الدولة يطلبون سوادهم، فلما خفّ عنه أصحابه سار حتى لحق بالسواد تحت عقبة قريبة من بحر الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين وجعل سيف الدولة يستنفر الناس فلا ينفر أحد. ومن نجا من العقبة نهاراً لم يرجع. ومن بقي تحتها لم تكن فيه نصرة. وتخاذل الناس وكانوا قد ملّوا السفر"، ثم يضيف التعريف: "وانصرف سيف الدولة. واجتاز أبو الطيب بجماعة من المسلمين بعضهم نيام بين القتلى من التعب، وبعضهم يحركونهم فيجهزون على من تحرك منهم، فلذلك قال يصف الحال بعد القفول في جماد الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة"، ويجري بعد هذا ذكر القصيدة.

لكن التساؤل المنطقي هو لماذا اختلفت الرواية، كما وصفها المتنبي لابن جني ولسواه، عما جاء بعد ذلك في القصيدة؟

***

كان واضحاً أن هذه الروايات باختلافها تسكت عن القول إن الأمير الحمداني نفسه كان منهزماً. وبالتأكيد كان الرجل مكرَهاً على ذلك ومضطرّاً إليه، هذا هو منطق الحرب؛ كرٌّ، وفرّ. لكن الأمير، وكأيّ حاكم، لم يجد من بدٍّ سوى في أن يلقي بتبعة ما حصل على الآخرين؛ دائما هناك جيش ترمى عليه التبعات، ودائما هنالك خذلان، لا عزاء للسلطان بغير هذا.

في هذه الرواية الأخيرة يستنفر الأميرُ الناس فلا ينفر أحد. لقد "تخاذل الناس وكانوا قد ملّوا السفر". في الحرب يريد السلطان من الشعب ألا يكونوا على طبيعتهم البشرية؛ لا ينبغي لهم أن يتعبوا وأن يملّوا وأن يسأموا. هو نفسه تعب وأعيته الحيلة فانسحب، ولم نقل انهزم، من معركة خاسرة.

الروايات المتداولة عن تلك الواقعة تحمل طيفاً، لا يكاد يُرى، من الحقيقة. في الرواية يكون الشاعر أمام جوهر صدقه وطبيعته الإنسانية التي لا ينبغي لها أن ترائي وأن تزيّف. يتحدث المتنبي إلى صديقه ابن جني فيسرد له الرواية كما وقف عليها هو بنفسه، لكنه يعود بالشعر فيستخدم الرواية نفسها إنما بوجه آخر، وجه يكون معه الجند المسلَمون متخاذلين جبناء. وهذا من أسوا ما يمكن أن يكون عليه استخدام الشعر لغرض غير إنساني يجري بموجبه تشويه الحقيقة لطعن آخرين قتلوا. هل كان المتنبي مرغماً على إدخال واقعة الجند المغدورين بهذا السياق التعبيري الشعري الذي تم بموجبه تجبينهم والطعن بكرامتهم؟ أما كان بإمكان المتنبي تجاوز هذا التفصيل من المعركة والاكتفاء بمدح شجاعة الأمير وهجاء العدو؟

الغريب أن ابن جني يعتمد الرواية الصادقة كما سمعها من المتنبي في شرح شعر زيّف فيه الشاعر الواقعة نفسها.

لم يستوقف هذا التزييف ابن جني ولم يتنبّه للمفارقة في هذا. ينتبه لهذه المفارقة بعد ذلك المهلبي؛ فقد جاء في (المآخذ على شرح ابن جني) قول أبي العباس بن معقل المهلَّبي:" تأمل، هداك الله، هذه الخرافة المتناقضة التي ينقض آخرها أولها! وذلك أن هؤلاء المسلمين الذين كانوا يجهزون على من وجدوا به رمقاً من جرحى الكفار لا يستحقون أن يسلموا إليهم".

كان المتنبي صادقاً بروايته لابن جني، بينما الشعر، بوظيفته في البلاط، يتحمل مسؤولية قول الكذب، كانت العرب تقول: الشعر أعذبه الكذوب. وهو معنى قد يفيد غرضاً نقدياً آخر ولا يمكن أن يعبّر بدقّة عن الحالة التي نحن بصددها، لكنه يظل يقرن الشعر بالكذب، وقد كان المتنبي كاذباً ومزيفاً في هذه القصيدة.

لم يكن الأمير سيف الدولة الحمداني مجرماً بانسحابه وتقهقره أمام عدو في معركة خاسرة، لكنه كان مجرماً في حملة التشويه والتشهير بالضحايا من جنده. لم يكن المتنبي ليجرؤ على مثل هذا التزييف لو لم يكن في موقف رسمي اعتمد التزييف لتبرير الخسارة. سيكون الحال بموجب الموقف الرسمي أن المعركة لم يجر خسرانها لو لم يتخاذل الجند، وجرت المبالغة في هذا حتى ادّعى الأمير سيف الدولة الحمداني أنه هو من سلّم أولئك الجنود للعدو عقابا لهم على ما وُصفوا به من تخاذل. وكان يجب على الشعر أن ينهض بهذه المهمة التشهيرية، إنه ديوان العرب، فكانت قصيدة المتنبي.

***

فقبل أن تنصرف قصيدة المتنبي (غيري بأكثر هذا الناس) إلى التركيز على مشكلة هؤلاء الجند وتشويههم، وهو مما قدمناه في مقال العدد المذكور، فإنها، أي القصيدة، تبدأ ببيت شعري غريب في تحامله على الناس، على أكثرية الناس، ونعتهم بالجبن في الحرب وبادعاء الشجاعة حين الكلام:
غَيري بِأَكثَرِ هَذا الناسِ يَنخَدِعُ إن قاتَلوا جَبُنوا أَو حدَّثوا شَجُعوا.

يعبّر مثل هذا الاستهلال عن حيرة أبي الطيب المتنبي وارتباكه. إنه استهلال في هجاء الناس بعد معركة خاسرة. يستعين الشاعر بحكمته المعهودة، فيبدأ بها، بالحكمة، يبدأ من حيث كان يجب أن ينتهي. الخلاصات تأتي في ما بعد، لكن المتنبي ابتدأ بالخلاصة مصاغة بحكمة، وبما يعبّر عن أن هدف القصيدة هو تحميل (الناس) مسؤولية ما حصل.

الارتباك الأوضح، مما لم يقف عنده الشراح، يفصح عنه عجز البيت: "إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا"، فقد كان الأجدر أن يبدأ بادعاء الشجاعة في كلامهم ثم يخلص إلى جبنهم في القتال. في العادة لا تُختَبر الادعاءات إلا في التجربة، لا يصدق ادعاء الشجاعة إلا بعد إثباتها في الحرب. ولو كنا في موضع البحث عن الهجاء في مضامين مدائح المتنبي لوقفنا عند هذا الاستهلال على أنه هجاء للأمير، أقرب مما هو هجاء للناس، حيث الأمير عائد من معركة خاسرة فيما هو، بعد ذلك، مصرّ على التمسك ببطولته فيها.

اضطرار المتنبي إلى استخدام اسم الإشارة المفرد (هذا) قبل (الناس) هو تعبير آخر عن ارتباكه، وليس محض خضوع لضرورات الشعر. يعلل الشراح له هذا الاستخدام بأن الشاعر اعتمد اللفظ لا المعنى (الواحدي)، أو أنه اعتمد الجنس (ابن جني)، كما في حال (الخلق) و(البشر)، ويظل هذا التسويغ غير مقنع، إذ إن استخدام (الناس) كمفرد لا تستسيغه الإذن وهو غير وارد، بالنثر خصوصاً، يشير إلى هذا التبريزي في شرحه، فيقول:" ولو أن الكلام منثور لكان الأولى أن يقول: بأكثر هؤلاء الناس. لأن أكثر ما تجيء هذه الكلمة بالخبر عنها خبر جمع. نحو: (أن الناس قد جمعوا لكم)" النساء/1".

كان هذا واحداً من أكثر استهلالات المتنبي حيرة وارتباكاً.

دلالات

المساهمون