كوفيد الذي لا علاقة له بكيوبيد العاشق

كوفيد الذي لا علاقة له بكيوبيد العاشق

11 مايو 2020
جسر فارع بسبب الوباء في مدينة أنتويرب البلجيكية (Getty)
+ الخط -

كُنّا زمان نقول عن الجبان إنه "يخاف من ظلّه، يطلع له في النهار"، أو "يخاف من الهواء"، أو "يخاف من الكحّة، في الليل". وكان جبناء وقتنا، والحقّ يُقال، نادرين جداً، حتى ليصحّ تشبيههم، بـ"سعادة" البشر المُحدَثين، اليوم. الآن، أصبحت غالبية الثمانية مليارات بشريٍّ، في أربعة أركان المهجورة، يخافون من الهواء، ومن الكحّة، ويشتاقون إلى ظلّهم الذي كان يقصر أو يطول أو ينعدم، آنَ كان الوقت رخاءً، وفيه مندوحة للوقوف أو السعي أو الجلوس تحت الشمس: هل تتذكّر كيف كنت تتشمّس، ساعاتذاك، لا لك ولا عليك، فلا تعاني من نقص فيتامين "دال"، الذي يعاني منه جميع ساكني الجانب الفلماني من المملكة، بمن فيهم عموم اللاجئين. فيضطرّون إلى أخذ الفيتامين، على شكل مشروب أصفر لزج، له مذاق كمذاق زيت الخروع؟

وكمثال صغير على ما نحن فيه، من فوضى زادت الميديا طينتَها بلّةً، نورد هنا بعض المشاهد، على ما قُسِمْ:
فلقد حدثت، منذ تشريف الفيروس [الذي لا علاقة له بقلب كيوبيد العاشق، إلا إيقاعاً]، عدّة مشاحنات في مخيّمنا، بسبب عطاس أو سعال، يتفاجأ به أحدُهم، وهو مارّ بجانب أحدِهم، فيشتعل أحدُهُم الأول، غضباً ورعباً من أحدِهِم الأخير.

وتتدخّل المسؤولات، بعدما يُستدعَين من المكتب باللاسلكي، لفضّ الاشتباك بين المتخاصمين.
هؤلاء الفقراء إلى الله والطعام الطيب والكمّامة، بينما هنّ يتناولن الثاني ويلبسن الثالثة، ولا يعبأن بالأول، وهكذا.

أبو أحمد من ريف حلب، تخيط له زوجته كمّامةً خضراء، من حوائج البيت. فيلبسها مزهوّاً كم ساعة، ويركب البسكليت، ويلفّ المخيّم الواسع [يذكرني بضيق مخيّماتنا إيّاها]، ثم، على حين عطسة، يختنق فيرميها. ويصير، بعد ذلك، يضحك ويسخر من كل لابِسيها من البلجيك، فينظر هؤلاء إليه، ثم يتفقّدون لباسهم كلّه: ربما فيه خلل. فلا يجدون، فيستغربون.

وأبو أحمد الثاني من الموصل، يصرفون له كمّامة ويحتجزونه في خيمة خاصة، لأن مناعته ضعيفة، بسبب حزمة أمراض. فيركبه الوسواسُ الخنّاس، ويصير يقرأ القرآن على الملأ المختَلَط، ويهرب من هذا ويُغضي عن ذاك وتلك.

ثم يختفي ليومين، وأخيراً تجده الشرطة الفيدرالية، بعد استدعائها، معتزلاً مثل ميخائيل نعيمة، في البيت الخشبي، هناك على أبعد زاوية من أطراف المخيم، نائماً على بطّانية مفرودة فوق العشب، في حظيرة كانت ذات يوم مخصّصة لحصان قصير القامة، وآخَر طويلِها.

أمّا زميلتنا الصومالية صفية، التي تركت طفلتيها عند أمّها البصيرة في مقديشيو، فتُنشب أصابع يديها العشرة وقوادمَ فمِها الكبير في شعر مارون المسشور من نيجيريا، وتنقلب الساحة، خلال ربع ساعة، إلى معركة وطنية، وجماهير مقسومة قسمَين: المشاركون ـ من صوماليّين ونيجيريّين ـ في العمليات، والمتفرّجون عليهم. وهكذا.

رجل بوسني يقع مع سيّدة من كوريا الشمالية، فتُغلظ له المسبّات. وفتاة أنغولية اسمها لارا (كرّهتني بـ"لارا" البياتي)، تضرب الفتى الغواتيمالي إغناثيو بالشبشب. والكل يتابع آخر الأخبار الخاصّة بين النزلاء، بحماس بائن، والأخرى العامّة على الويفي، بحيرة وتشتّت.

حتى إنّ بعضهم يذهب للساحة المعشبة، في صقيع الصباح الباكر، ويكون لم ينم بعدُ، فيتغطّى بالبطّانية ويشدّها عليه، ويتابع الإرسال من تحتها، فإذا بالمنظر عجيب غريب، وربما طريفٌ مُسِرّ، في زمن خلا من المسرّات وصغار النحّاتين.

وكلما رأت الإدارة [بعد أن أغلقت صالة النت، وطردت المستهلكين الواقعيين، إلى الباب الخارجي]، أنّ التجمّعات زادت، واقترب البشر من بعضهم، أقلّ من متر ونصف، يفصلون الشبكة.

وهكذا تكثر المشاكل في المخيم، لأنّ النزلاء أدمنوا متابعة آخر الأخبار، بينما قسمٌ حكيمٌ منهم يعمل في قطاف البندورة والباذنجان، ويراكم الفلوس، ويسخر من الجميع. وقسم آخر، من مرضى السكّر بالخصوص، تعوزه الحكمة ويفيض بالخيال، فيسرق السجائر من المحلّات الراقية بالكوم، ويبيعها علينا بنصف الثمن. أمّا القسم الرابع، فيهرب إلى بلدياته من أقرباء وأصدقاء مقيمين. وهكذا.

وهكذا تشيع حبوب الترامادول كأنها حبّة البركة. ويعمّ الحشيش والمارخوانا، الأجواءَ والروائح، ويُباع الهوى بالبخس، نهاراً وليلاً، في الغرف والحمّامات. وكأنها، هذه الأشياء مجتمعة، قد باتت بمثابة "المنقذ من الضلال": ضلال فضاوة وعبء مرور الوقت أمام الجائحة.

بينما قسم القاصرين من الأفغان، يسرقون درّاجات النزلاء، ويقضون بها مشواراً، ثم يرمونها في الخارج، ويتعاركون، ثم لا يعبأون بأيّ احتياط صحّي، فهم محصّنون ضد الكورونا [وربما المعرفة]، فقط لأنهم مسلمون. وهكذا.

والخلاصة يا عبد الله، أن الحياة مستمرة، ونهر الوجود سارٍ، كما تشاهد بعينيك. وفي إشراق هذا الصباح، ثمّة متسع لجميع الأحياء، حتى لو تطلّعوا إلى الشمس الغائبة من وراء زجاج. القصّة فقط، أن الميديا هوّلت، والنفوس الضعيفة أعولت، والعيون رأت فرأرَأت، فتحوّلت فاحولّت، وهكذا.

فهل ترانا يحق لنا، وقد حدثَ ما يحدث، أن نتفكّه قليلاً؟ كورونا ـ كورونا: هل نعيش مزحة مصير، يا عبد الله؟

لقد خرجت اليوم، العشرين من مارس، إلى مدينة أنتويرب الكئيبة ـ الكئيبة قبل انتشار الفيروس وبعده ـ فلم أصدف إلّا آحاد الناس، وغالبهم من المهاجرين.

عدت من المدينة إلى مخّيم بروخم، وحدي في الباص. كأن صاحبك أخذ الباص المزدوج في طلبية خاصة!

مثل هذا الجو، وكأننا نعيش في فيلم خيال علمي، لا يروقني، بتاتاً. اللعنة عليك يا كوفيد التاسع عشر!

ها أنذا، على الضد من كل الإرشادات، أفوع وأخرج وأدخل، مع أنّني ككاتب، متعوّد الحبس بالغرفة لأيام.

لكن الآن، كلّا. لم تعد لدي مؤخّرة لأجلس.
اللعنة عليك يا فيروس حظر التجول. جعلتني أمشي فأحس بأنني لا أمشي في هواء سائغ، وإنما أخبُّ في هُلام أبيض مُكورن.
عموماً، أفتقر إلى الرغبة في الكتابة عنك، ربما بسبب أنك أرجعتنا إلى عرش الحيوانية الأول.
عموماً، لا أعرف ما أقول الآن. أعرف فقط أن لديّ القليل من الراحة وسأكرّسها للنوم.
اللهم يسّر وأعن.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص عن تجربة تحصل الآن في مخيم للاجئين في بلجيكا

المساهمون