"خراب" مارك مانسون: بحثاً عن أصل المشكلة

"خراب" مارك مانسون: بحثاً عن أصل المشكلة

04 مايو 2020
"براك مرة أخرى" لـ مارك وارين
+ الخط -

في كتابه "خراب: كتابٌ عن الأمل"، الصادر عن "منشورات الرمل" بترجمة الحارث النبهان، يَطرحُ الكاتب والمدوّن الأميركي الشاب مارك مانسون (1984)، سؤالاً أساسياً: لماذا يبدو الإنسان المعاصر تعيساً وفاقداً الأمل، رغم أنّ ما في متناوله من تكنولوجيا ورفاهية لم يكُن متاحاً لأسلافه؟

يواجه مانسون ذلك السؤالَ ويتقصّى جذوره بالاستناد إلى مراجع في الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة والتنمية الذاتية، في محاولةٍ لتشخيص أصل المشكلة وتحديد طبيعة الخراب الذي نعيشه.

في الفصول الأولى، يطرح المؤلّف فرضيةً يدعمها ببعض الإحصائيات والدراسات العلمية؛ ومفادُها أنَّ زيادة أسباب الرفاهية قد تقود إلى الاكتئاب أو الانتحار، مُقدّماً سببَين لذلك: أوّلهما تغليبُ "الجزء المسؤول عن الشعور في الدماغ" والانغماسُ في الملذّات، والثاني "تغليبُ الدماغ المفكّر" كالانهماك في العمل لساعاتٍ طويلةٍ دون الالتفات إلى الحياة الشخصية والعائلية.

يَعتبر مانسون أنَّ الحلَّ الأمثل يكمن في السيطرة على فصَّي الدماغ وإحداث توازن بينهما. هنا، يضرب مثالاً بشخصٍ مريض يُدعى إليوت، تعرّضت مناطق الشعور لديه إلى التلف نتيجة إزالة ورمٍ حميد من دماغه، وخسر وظيفته وأُسرته بعد أن تأخّر عن اجتماع عمل مهمّ لأنه ذهب لشراء ثاقبة ورق، إذ كان يَعتقد أنَّ شراء هذه الآلة له نفس أهمية الاجتماع.

ينقسم الكتاب إلى جزأين؛ يُشخّص الأوّلُ المشكلةَ ويطرح لها حلّاً يتمثّل في الأمل؛ وأحد أسبابه - حسب المؤلّف - هو الأديان التي يُصنّفها ضمن ثلاثة أقسام: روحية، وأيديولوجية، وشخصية، والمقصود بالأخيرة الحبُّ والتعلُّق بالمشاهير مثلاً. أمّا القسم الثاني، فيستند إلى آراء نيتشه (يُخصّص فصلاً لحياته وفلسفته) الذي يقول مانسون إنه كان يعتقد بضرورة أن ينظر الإنسان إلى ما وراء الأمل، وإلى ما وراء القيم، وأن يرتقي إلى ما وراء الخير والشر.

ويرى مانسون، في هذا السياق، أنَّ على الإنسان أن يتحلّى بالوعي الذي سيقوده للتعامل مع الآخرين على أنهم أهدافٌ وليسوا وسائل، مُعتبراً أنّ الطريقة التي يتعامل بها الناس مع بعضهم بعضاً، والمتمثّلةُ في إبرام صفقاتٍ في كلّ شيء تُشبه طريقة تعامُل المراهق مع عائلته، والتي تسعى إلى التوفيق بين تحقيق الرغبة والمخاطرة بالعقاب. وإعلاءُ الوعيِ على أيِّ شيء آخر هو ما طرحه كانط؛ حيثُ يزاوِج الكتاب بين الأخلاق الكانطية وعلم النفس التطوُّري ونظرية المعرفة في محاولته تحليل مشكلة الإنسان المعاصر.

يضرب مانسون مثالاً على التعامُل مع الإنسان كوسيلةٍ بما تفعله "سلطة الإعلانات" التي حوّلت الأفراد إلى مستهلكين؛ حيثُ تستغلُّ الشركاتُ معلومات الفرد على الإنترنت وتبيعها وتتنصّت على مكالماته، فقط من أجل أنْ تبيعه شيئاً ما. وبرأيه، فإنَّ ذلك لم يبدأ اليوم؛ ففي عام 1928 استعانت شركات التبغ، ولاحقاً شركاتٌ أُخرى، بـ برنايز، ابنِ أخ فرويد، ليقود أكبر حملةٍ دعائية في العالم، مستغلّاً نظريات عمّه في التحليل النفسي التي كانت مِن أولى النظريات التي أخبرتنا بأنَّ "سيارة الوعي يقودها الدماغ الذي يشعر وليس الدماغ المفكّر". وهكذا، وجّه برنايز إعلاناته إلى "الدماغ الذي يشعر"؛ حيث بحث عن مواطن الألم عند المستهلك ليُضاعف من ألمه، ثمّ يقترح له منتَجاً يُخدّره.

ويعتبر صاحب "فن اللامبالاة" أنَّ ما فعله برنايز كان "ثورةً" في مجالَي الإعلام والاقتصاد، مكّنته من أن يُصبح مليونيراً في وقت وجيز، وأن يتحوّل فرويد إلى ظاهرةٍ علمية بعد أنْ كان مفلساً ويعيش في سويسراً متخفّياً عن النازية.

لكن، ماذا يحدث عندما يبلغ الناس مستوىً مرتفعاً من الصحة والثروة؟ يُجيب مارك مانسون بالقول إنَّ النشاط الاقتصادي يتحوّل، حينها، من الابتكار والتجديد إلى التسلية التي ستُساعد على تخدير الناس، وهذا بالضبط ما يحدث اليوم؛ حين نشتري - مثلاً - قطع بطّيخ مقشّرةً ومقسّمةً إلى شرائح متساوية بأضعاف ثمنها الحقيقي. وهذا ما تنبّأ به أفلاطون الذي يقول عنه ألفريد نورث وايتهيد: "الفلسفة الغربية كلُّها ليست أكثر من سلسلة هوامش على فلسفته"؛ فقد رأى الفيلسوف الإغريقي أنّ زيادة الخيارات لن تنتهي إلى تحقيق الحرية، بل ستقودنا إلى "الحرية الزائفة" التي يجعلُ تعدُّد خيارات الإلهاء والتسلية فيها الإنسانَ يحيد عن سبيل القيم الإنسانية.

دلالات

المساهمون