من يرشد الفم إلى صرخته؟

من يرشد الفم إلى صرخته؟

15 اغسطس 2019
ثيودور ماجور/ إنكلترا
+ الخط -

إنَّه جرحكَ أيُّها الصحو

توهَّمناها أياماً حلوةً بعد أُخَرٍ غارقة في الوساوس والترصُّدِ وتقلُّصات الأمعاء. هبطَ علينا المساءُ مع أوراقِ الشجرِ اليابسةِ. تصاعدَ البخارُ من إبريقٍ لم ينطفئ طوال النَّهارِ، وجاءت الكوابيسُ القديمةُ على جيادِ الأنباءِ الجارحةِ. قَتُمَت أوقاتُنا.

بسطَ الألمُ الأبكمُ وشاحَه على ملامحِنا الكاسفةِ. دامَ صمتٌ في الغرف الثلاثِ المربّعةِ. من الردهةِ خرجَت صرخةُ نجدةٍ يتيمةٌ، بعدها أتمَّ الصمتُ الساهمُ حياكةَ أيامِنا.

لا أعرفُ كيفَ غلبَ وهنُ السكون بأسَ الصرخة؛ أين عساه جرفَها؟ تحت أيِّ منديلٍ نُوِّمَت فاجعتُها؟ ومن أين هذه العتمةُ من حولنا؛ من جاءَ بها من آخر الدنيا ليهبنا إياها بكاملِ فتوّتها؟ من يرشدُ الفمَ إلى صرخته؟ آهٍ، لا أحدَ هناك ليقول، ليعرفَ.

طويلاً ضغطوا الجرس ولم نتحرّك. رجالٌ أشداء بكوا بحرقةٍ أسفل المبنى. الطفلةُ الحولاءُ مررت يدَيها على حديد الباب ومضت بعجالةٍ. تعثّرت وبكتْ بعينين تبرقان كجمرتين. أية جمرةٍ تبكي؟ أيّة إجابةٍ تعرفُ أيُّها الزمنُ، أيّة إجابةٍ لأسئلةٍ تتضوّر جوعاً؟

مرّ وقتٌ، وكان العالمُ يلجُ ظلمةَ الداخل من ثقب العين الساحرة. الشمسُ، كلّ صباح، تطلعُ السلّمَ خلف النافذةِ وتنتظرُ، دون أن يفتحَ لها أحد.
فتغيبُ وتطلعُ وتغيبُ بلا توقُّف. الشمسُ لا تضجرُ والسعادةُ لا تصلُ أبداً؛ تخافُ أن تضجرَ. من يعرّف الشمسَ على السعادةِ؟

تيبّسَت مفاصلُنا من الانتظارِ. رنّت هواتفنا دفعةً واحدةً. ارتجفنا كالجراءِ المذعورة في بحيرة هامدة. تمدّدَ الأرقُ فوق الأسرَّةِ. ابتسامةٌ وحيدةٌ نجت، وضعناها أيقونةً في صدرِ البيتِ، نتأملها كلّ فجرٍ وندمعُ. مرَّ وقتٌ. وكانَ يمكنه أن ينقضي في جلسةِ سمر، في سفينةٍ بلا بوصلة أو صلوات في معبد.

رقّ أخيراً قلبُ الموت؛ دندنَ لنا بصوت عذبٍ ألحاناً نعرفها، وبرقّة حطَّ مفتاحَ الأقدارِ فوق الطاولة. تمايلت جوارحنا. تهادى إلينا رنينُها. نهضَ أكبرُنا، حمل المفتاحَ ومضى بخطى تُبدي حكمةً. فتحَ بأناةٍ الباب، فخرجَ منه الموتُ في ظهيرة خريفية مُنتهباً ابتسامةَ أبينا. تبعناهُ، سوياً، كقافلةٍ في جنازةٍ.

تركنا خلفنا البيتَ للصمت؛ للغيابِ يرسمه لوحةً تعبيرية للقتامةِ، للفراغِ يعزف فيه جازَ الصمتِ، للوحشةِ تدوّنه قصيدةً تكسرُ متنَها عواطفٌ مبتورةٌ مقتضبةٌ. تركَنا البيتُ. فرغت حياتُنا فجأةٍ من كلِّ ما عرفناه، صرنا في المرايا غرباء يحدّقون في غرباء، سكنتنا وداعةٌ سقيمةٌ، ورحنا نبصرُ الموتَ يزحفُ في أنقى أحلامِنا في جهةِ من نُحِب. آهٍ كيف يخرج هذا الشبح العظميّ النحيل من أيّامنا؟ أما من أحدٍ يرى؟

يتصاعدُ من حولنا الصمتُ. نلمسُ ما لن يحيا. نصادف فزّاعاتٍ في وديانٍ يضيئها قمرٌ دموي. وهناك في العلو، ابتسامةٌ لا تفارقُ غيمة الهلوساتِ الليليةِ؛ إنَّها ابتسامتك العارفة، ابتسامتك الأسطورية الأجمل التي، للأسف، تجعلني أبكي بلا توقف. حين يصلُ الفجرُ تنسحقُ الأحلامُ، ومن الغيمةِ تتدلّى شفةُ الجرحِ السفلى. إنَّه جرحكَ العُضَال أيها الصحو.


***


مرثية القمحِ

‏‎تنامُ فيكِ الفجيعةُ أيّتها الأرض؛ الفجيعةُ التي تنفثُ دخاناً كالحاً يصعدُ أدراجَ الهواء ويكدِّر مزاجَ القرى الممدودة عُقُوداً في الأفقِ. الفجيعةُ التي تنبتُ وأنتِ تستلين، خلسةً كالغادرين، خنجرَ النّارِ من قلبِكِ وتوقظينَ حريقكِ النائم على وجهكِ؛ تهزّينَ الموتَ في غيبوبتِه، وقتَ الشفقِ حين تشفُّ العتمةُ سكيناً، لينهضَ ويُشعِلَ الهلعَ في وداعةِ الريفِ. تسعّرين الطّيشَ في المدى، وتربّين السنابلَ كالقنابلِ في الحقول لتُفحِمَ رجاء السّاهر عند رأسِكَ مذ صرتِ، أيّتها الأرضُ النَّكبةُ.

ها ترفعينَ شعلةَ المأساةِ عاليّاً كما يرفعُ الأقوياءُ كأسَ الدمِّ المهدورِ، كما يرفعُ القساةُ صوتَ المحنةِ المتوهّجةِ، كما يرفعُ البحرُ الجثّةَ متورّمةً. كيفَ، يا أرض، يا ابنة التّاريخِ الأليمِ، تطعنين سائساً يسوقُ الأذى بقلبِه في كلِّ جهةٍ تبتعدُ عنكِ، وتسلخينَ جلدَ من رمى بجسدِه ليُطفئ احتدامكِ.

كيفَ تنهضين، هكذا آن تطلعُ الشمسُ، رماداً فوقَ الأحلامِ الذهبيّةِ للضِعَافِ القلقين، كيفَ تشوين الأمنيات، وتَصْلَين عينَ الأملِ الوحيدة في بساتين الحلكةِ. كيف تصيرين، أيّتها الأرضُ، بين عشيةٍ وضحاها، بركاناً تجرُّه الريحُ الهوجاءُ، كما يجرُّ عصابيٌّ كلبَه العليلَ لمعركةٍ مواتٍ. أكلبةُ الرياحِ أنتِ؟ أتعضّينَ من ناصفكِ كلّ شيءٍ وجاءَ إليكِ بدلاءِ المياه حينَ كانَ المَحْلُ؟

‏‎آه لكِ أيّتها الأرض. آهٍ لوعودك المنكوثةِ ورائحةِ القمحِ المشوي في حزيرانَ. آه لنارٍ لا تطفئها سوى الأكباد. آه للأكباد حمراءَ تشتعلُ، للدخانِ خصيفاً تخورُ تحتَه رُكبُ الفقراء وتجولُ نظراتُهم الحيرانةُ على معالمِ النائبةِ. آهٍ لخَرَسِ الحقول في المساء، لظلامِها الكثيفِ السّاكنِ، للقمرِ وجه طفلٍ أعياهُ السلُّ، للجبلِ الأزرقِ يرعى الكوابيسَ آخر الليلِ، للطرقِ الترابيّةِ بين الفجرِ والأرقِ؛ لكَ، وحدك، أيّها الجحيم الراكض في يباسِ الحقول.


*شاعر سوري مقيم في فرانكفورت

المساهمون