كيف يمدّ الصياد شبكته؟

كيف يمدّ الصياد شبكته؟

01 اغسطس 2018
روبيرت يانسن/ الولايات المتحدة
+ الخط -

قبل ستة قرون تقريباً، أي قبل ظهور وسائط إعلاميّة متطوّرة سحقت إعلام القصّاصين والمفسِّرين الذين يتّخذون مقاعدهم على الطرقات ورواة الملاحم في المقاهي الشعبية وحكاياتِ الجدّات الخائفات، وضع عبد الرحمن ابن خلدون معياراً لتمييز الخبر الكاذب من الخبر الصادق؛ حين يُخبر أحدهم عن واقعة من الواقعات.

كان المعيارُ بسيطاً؛ أن للظواهر طبائع وسنناً، فما سمعتَه مخالفاً لطبائع الأمور وسنن الحياة كان كاذباً، وما توافَق معها كان صادقاً.

هذا المعيار الخلدوني البسيط رحل مع ما رحل إلى بلاد الغرب من موروثاتنا، وغارت المنطقة العربية بعده في آبار العقلية الخرافية التي تُصدِّق ما تسمع، حتى وإن خالف السنن والطبائع، بل وتزداد تعلّقاً به كلما أوغل في الكذب وخالف كل معقول.

اليوم وبعد كل هذه القرون، وحين يرقب المشاهد كيف تنتقل الخرافات والأساطير (سواءً كان موضوعها سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو تاريخياً) من وسائط الإعلام إلى الشارع والديوانيات والمكاتب والندوات، أو العكس، وتصنع "أذهان" المشاهدين على مقاسها ورغبات مطلقيها، وكيف تسري سريان النار في أكوام القش اليابس، لا يكاد يصدّق أن هذه الأرض عرفت فكراً مثل فكر ابن خلدون، أو طاف في طرقاتها شخصٌ مثل ابن الهيثم، أو تفيّأ ظلال أشجار أندلسها شخصٌ مثل ابن رشد، أو رسم لها الخرائط وأخبرها بكروية الأرض شخص مقيم في صقلية مثل أبو عبد الله الإدريسي.

وأعجب العجب أن تجّار صناعة الأساطير والخرافات التي لا يصدّقها العاقل إن عقل، أو العالم إن علم، ينتحلون على الأغلب أزياء شبيهة بأزياء أولئك الأسلاف الذين ذكرنا بعضهم، ويتشدّقون بألفاظ شبيهة بألفاظهم، على شاشات إلكترونية أو صفحات كتاب أو صحيفة، أو شاشات فضائية أصبحت واجهة عرض لهم.

وبعد أن تنتهي برامجهم، أو إطلالاتهم، وبعضهم ذو برامج تلفزيونية على مدار الساعة، ويترجّلون عن صهوة خيولهم أو أتانهم، تجدهم يخلعون أزياءهم التي مثّلوا بها أدوارهم، لينخرطوا في حياة طبيعية لا تمتّ إلى عالم الخرافات التي روّجوا لها بصلة، فتجدهم يمتطون الطائرات، ويتجوّلون في أروقة البورصات يضاربون ويضربون، فإن ذكّرتهم بالمسرحيات التي شاهدتهم فيها قالوا لك: ذلك عمل.. وهذا عمل!

الأعجب من هؤلاء، بالطبع، الوسائط الإعلامية التي تنشرهم وتعمّمهم وتزجّ بهم في وجوه المشاهدين، فيذهل من يذهل عن نفسه وعالمه، ويُصاب من يصاب بالوسوسة والهلوسة، غير عابئةٍ بمن ذهل أو هلوس، بقدر ما تعبأ بحساب حصيلتها من أرباح الإعلان والمكالمات الهاتفية التي تنهال على صيّادي العقول الغائرة في آبار الخرافات والأساطير، إن كانت قناة تلفزيونية، أو بعدّ الحوالات المالية إن كانت صحيفة ورقية أو إلكترونية.

أختم كل هذا بعبارة مرّت بي لقصّاص من أسلاف هذه الوسائط. قال هذا القصاص، الحكواتي، الراوية، المحدّث، المفسر.. وما شئتم من وظائف، الجالس على ناصية شارع، وقد ضاق بكاتب عابر أزعجه وأبعد الناس المتكأكين عليه: "حسيبك الله! إذا لم يرَ الصيادُ طيراً فكيف يمدّ شبكته"؟

وأظن أن أصحاب هذه الوسائط الإعلامية، الورقية والإلكترونية والتلفزيونية، لن يضيفوا إلى هذه الشكوى حرفاً إذا تصدى لهم شبيهٌ بابن خلدون وكشف أضاليلهم فتفرّقت الطيور وأفلتت من شباكهم.

المساهمون