"اسمُ حزبٍ": مناورات سياسية داخل اللغة

"اسمُ حزبٍ": مناورات سياسية داخل اللغة

06 اغسطس 2019
(من حائط مخصّص للانتخابات في ضاحية باريسية، توماس سامسون)
+ الخط -

لا يمكن أن نتخيّل أنّ تسمية الأحزاب والجماعات السياسية لذاتِها مُرتجلة أو اعتباطيَّة في خضمّ تنافسها على امتلاك الرأسمال الرمزي. فالتسمية، بما هي فعل كلاميّ رسميّ، ترتبط باستراتيجية كاملة في صنع صورة الحزب ومنحِهِ هويةً ما داخل شبكة الصراعات الاجتماعية وتضارب المصالح السلطوية والاقتصادية. ولا شكّ أن عملية التسمية هذه قد ازدادت تعقُّداً، في السنوات الأخيرة، بسبب انهيار الأنساق التقليدية، التي تقاسمت الساحة السياسية ثنائياً بين يَمين ويَسار، وانبثاق توجّهات وتيارات غير تقليدية باتت تسعى إلى اكتساب شرعيتها وترويج برامجها وكسب المتابعين والمتعاطفين، عبر رمزية الاسم وإحالاته.

ومن المعلوم أنّ أسماء الأحزاب تشتغل، تركيبياً ووظائفياً، كأسماء أعلام، ولكنها تتسم بخصائص سيميائية دقيقة، من حيث إشارتها إلى جماعاتٍ وتنظيماتٍ، هي التي تتولّى اختيار اسمٍ ما ليحملَ رؤية الحزب ونظام قيمه ويذكّر بمرجعيته النظرية. وهكذا، فإنّ تسمية الحزب، هي بالدرجة الأولى، فعل كلامي ينجز شيئاً في الواقع، بحسب التحديد الذي وضعه المفكر اللساني الإنكليزي جون أوستين في كتابه "كيف ننجز الأفعال بالكلمات" (1962). وهذا الفعل الكلامي هو الذي يُوجد الحزب ويؤسس لرمزيته ويعطيه مجاله المرئي، لأنّ من شأن الاسم أن يؤدي وظائف تداولية لصالح المنتمين إليه، كما لصالح جمهور الناخبين، أكانوا من المتعاطفين أو المناوئين.

فالاسم هو الذي يساهم في موضعة حزب ما أو جماعة ما، ضمن نسيج الفاعلين الاجتماعيين والفضاء السياسي العام الذي يتحرّكون داخله، وحتى في المجال الدولي، بما أنّ للأحزاب اليوم امتداداتٍ إقليمية وعالمية. ويتحرّك اسم حزبٍ ما ضمن عالمٍ دلالي، عامر بالأسماء الأخرى، المشابهة والمعارضة، والتي يشكل مجموعها أصداء ونقائض. هذا، ولا يظهر اسم الحزب من العدم، لا على مستوى المعجم ولا على مستوى التركيب النحوي، فهو يَمتح من حقولهما ويعمل على التأثير في المتلقين بفضل ذلك الاستمداد.

شكّلت هذه القضايا اللغوية والتداولية المعقدة موضوع إصدار فرنسي جديد، ظهر مؤخراً بعنوان "اسمُ حزبٍ: من أجل نظريةٍ في تسمية الأحزاب" بإشراف كل من الباحث بول باكو والباحثة ميشال ليكول، ضمن نشرية "كلمات: لغات السياسة"، (عدد 120، يوليو/تموز 2019). ويتألف هذا العددُ من ثماني ورقاتٍ بحثية تعالج حالاتٍ مختلفة من تسمية الأحزاب، وتحيل على مُدوّنات متباينة، يتصل بعضُها بدراسة دلالات أسماء الأحزاب المعروفة في العالم، وأخرى مُتخيّلة، في العصور الماضية وفي الحاضر، وتغطي بلداناً من القارات الخمس ومن سياقات سياسية وتوجهات أيديولوجية شديدة التفاوت. وكلُّ ذلك في سبيل إعطاء مسحٍ شمولي يصلح أن يستغرق موضوع التسمية الحزبية ويستخرج لها قوانين عامة.

وحسب الحالة المدروسة، فإنّ المقالات تقترح مقارنات بين أسماء الأحزاب أو توصيفاً ألسنياً لتطوّر الحزب والملابسات التي صاحبت ظهور اسمه أو تلاشيه. وأما من جهة المنهج، فقد اتّبع الباحثون مقاربات مختلفة، يستند بعضها إلى التاريخ الاجتماعي وعلوم اللغة وبعضها الآخر إلى علوم السياسة والتواصل. وتساعد، في تضافرها، على فهم هذا الموضوع المعقد والطريف. فقد اشتهرت هذه النشرية اللسانية بتألقها في مزج المقاربات واغتراف المنهجيات الإنسانية بعضها من بعض، من أجل التعمق في إدراك الظواهر اللغوية عموماً وخطابات السياسة خصوصاً.

استُهلّ الكتابُ بمقال نظري مطوّل، اشترك في صياغته المشرفان على الكتاب، تناول الخصائص الألسنية والوظائف التداولية (دلالة الاسم داخل السياق) لتسمية الأحزاب، حيث عدّد الباحثان مجموعةً من السمات الدلالية والمعجمية وحتى التركيبية التي تميّز نظام التسمية.

وخُصّص المقال الثاني، وقد وضعته الباحثة أليس كريج-بلانك، لتسمية الأحزاب أو الجماعات الافتراضية التي تطلق أسماء لمنظمات لا وجود لها في الحقيقة، وذلك بواسطة المولدات الآليّة والروبوتات. وأما المقال الموالي، فقد اعتنى بالتسميات التي أطلقت على الحزب العمالي الديمقراطي الروسي والذي أصبح في ما بعد يحمل اسم: "الحزب الشيوعي" في الاتحاد السوفييتي. وقد تتبعت فيه دومينيك كولاس، كواليس التسمية وربطتها بأيديولوجيا الحزب ومتغيراتها طيلة عقودٍ.

واهتم بحث جوليان فرتال بحزب الرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون، "إلى الأمام"، إذ أبان عن آليات التسمية التي قفزت على التقسيمات الثنائية الضدية (يمين/يسار) وأُطلقَ الاسم، اعتماداً على حِيَل الاقتصاد والتسويق والترويج، في تمشٍ يقطع مع الماضي ويؤسّس لنمط جديد من الوعي السياسي، لا يميني ولا يساري.

ودائماً ضمن الإطار الفرنسي، بحثَ إريك تريبال عن حيثيات القطائع الرمزية التي حصلت في ثنايا اسم "الحزب الاشتراكي الفرنسي" بُعيدَ هزيمته النكراء في انتخابات 2017. وخَصّص صالح أكين دراسة قيّمة عن تسميات الأحزاب الكردية القانونية الناشطة في تركيا. وقد عُقدَ المقال السادس لدراسة الاستمرار والقطيعة في تسمية الأحزاب في دولة بوروندي.

وخُصّص المقال الموالي، وهو بقلم فاليري بون، لتسميات الفهد/ الفهود السود من صيغة الإفراد إلى الجمع، وما اعترى هذا التحول الصرفي من دلالات. وتناول المقال الأخير الأسماء التي أطلقت على أحزاب الإسلام السياسي، في خَمسة بلدان إسلامية، هي المغرب والجزائر وتونس ومصر وتركيا، حيث بَيّن الباحثون المفارقة الكبرى بين المرجعيات المحافظة والتقليدية لهذه الأحزاب ومَضمونها الحداثي الذي يستند إلى خطاب النهضة العربية.

يوفر مجموع هذه الأبحاث إطاراً نظرياً متكاملاً عن العمليات السياسية والرمزية التي تصاحب عملية تسمية حزب سياسي وتكشف الآليات الذهنية والاجتماعية التي تتدخل فيها، بما يجعل من الاسم علامةً ووظيفةً وفعلاً في التاريخ، يتحرك بفضله المنتمون ويفتح لعلاقات تعاون أو تمايز مع الجماعات والأحزاب الأخرى. وتقدّم هذه الأبحاث، بفضل تنوّع الأحزاب المدروسة، عبر التاريخ وعبر البلدان المختلفة، ما يشبه القواعد العامة والضوابط النظرية التي تحكم مسار التسمية مهما كان البلد والمرجعية الأيديولوجية التي يُعتمد عليها.

ومن شأن استشفاف هده القوانين وتطبيقها على العالم العربي الإسلامي أن يكشف المخبوء في تلك العملية ويعرضَ التلاعبات والتوظيفات التي تطاول المخيال الجمعي. ولا شك أن هذه الجماعات والأحزاب، مثل كل التكتلات الأخرى، تقع تحت الثنائية الضدية: الحداثة والأصالة، ولذلك تستمدّ أسماءها إما من التراث، لإضفاء شرعية ماضوية عليها، أو من الحركات الثورية التحررية، من أجل القطع ولو بالتدريج، مع المرجع المحافظ، والإيهام بمعاصرة المضمون وانتسابه إلى القيم الكونية. وقد تتجاورُ المرجعيّتان مما يجعل التسمية رهاناً رمزياً صعباً، يَطاول القيم السياسية التي يراد منها أن تحكم المجتمع وتنظمَ المجال السياسي فيه.

ولذلك نرى أنّ تدشين الحقل العلمي الذي سُمّي onomastique partisane بما هو دراسة علمية لأسماء الأحزاب ودلالاتها ووظائفها وتطوراتها وعلاقاتها بالمؤسسات الاجتماعية، من ضرورات البحث الألسني في بلداننا العربية، التي أمست زاخرةً بالأحزاب والجماعات المتكاثرة فيها كالفطريات، وكلها تبتدئ نشاطها الفعلي باختيار اسم ما، وعليه يتوقف جزءٌ من نجاحها أو فشلها. وقد يساعد هذا الحقل في الكشف عن دور التسمية في بناء صورة الحزب ومراجعه، وقد يُظهر آليات التلاعب والتوظيف، التضخيم والإخفاء وسائر العمليات التي صار لزاماً على الألسنية الاجتماعية الكشف عن مظاهر المكر فيها.

المساهمون