نيكانور بارّا حياة أبدية

نيكانور بارّا حياة أبدية

16 يوليو 2018
(من معرض في سانتياغو 2014، تصوير: مارتن بيرينتّي)
+ الخط -
تصوَّر العالمُ أجمعُ أن نيكانور بَارَّا (1914-2018) لن يموت أبدا، إضافةً إلى أن نيكانور نفسَه كان يسخر كثيرا من كل البشر الذين كانوا يعتقدون أنهم غيرُ فانين. وكان أولئك أنفسُهم يتصورون أن بارَّا سيكون من ذلك النوع ذي الجسد المادي غير الفاني والحاضر، الذي ينتظر زيارات (مرغوبة وغير مرغوب فيها) في بيته في لاسْ كْروثِيثْ دَوْما. أن يكون نيكانور واحداً من الشعراء الدائمين فهذا مما لا مراء فيه، ومنذ زمان بعيد؛ منذ أنْ ابتدعَ القصيدة المضادة، وشَرَع يلعب بها، وفي الكتابة متعلِّقا بـ"جناح ذبابة".

يتمثَّل إنجازُ بارَّا في إخراج الشعر من "فردوس البلاهة الجليلة" وأنْ يُقِيمَ، في المقابل، "جبلَه الروسيَّ"، محطِّما آفاقا وحدودا، وهو ما لم يكن يُتَصَوَّر وسَط بُلَهاءَ وَقُورين بأصواتٍ رصينة، يكادون يُشكّلون تقريبا جُماعَ الكون الشعري التشيليّ، سابقا وحاليا. أنا لا أبالغُ، حقيقةً.

كان لنيكانور مزاجٌ وسخرية متفرّدان. وذاك هو الأهمّ. وأجْرُؤ على القول إن ذلك ما منحه الحرية كي يكتب بالصيغة التي عُرِف بها، للوصول إلى الكتابة على غير شاكلة لم يَجْترحْها أحدٌ قَبله أبدا. إنه شاعر لم يؤمن بأنه يمتلك الحقيقة قَطّ، على الرغم من قوله حقائقَ أكثر من أيٍّ كان. لقد ترك أنانيتَه جانبا، وترك الأبواب مشرعة للتفسيرات الخاطئة، متأثِّرا بتيارات مرحلتِه مثل السوريالية والدادائية، وعبَّر عن حقه في أنْ يقول "يا لَقذارة ما أكتبُ من أشعار"؛ أو أن يقول "شيئا مقابل آخر"، أو أنه لا يعرف "جيدا ما يقول"، ذلك أنّ "انفعالي يرتقي إلى رأسي".

كانت سخريته شيئا هكذا مثلَ رقصةِ كُويْكَا طويلة، لكن متقنة جيدا، مثل الذهاب والإياب، من جانب لآخر، مثل القول الموهِم ببلوغ ناحيةٍ من النواحي، بينما لا ناحيةَ تُبْلَغ، لكنّ الأكيد هو أنه من جانبه كان يجوب كلَّ تلك الأماكن المستحيلة وعصيَّةِ التصوُّر مردِّدا أن "الوجودَ يُختَصَم منه"، ومُلقيا نظرات شزراء على القمر، مُدرِكا أنْ لا معنى للحياة مراتٍ عديدة، ومُتحدِّيًا إيّانا جميعا، ومحرِّضا إيَّانا على أن نقتنع مرَّة واحدة وإلى الأبد بأن "ليس ثمة رب!".

عقب رحيله في يناير/كانون الثاني الماضي، تحدَّث فايسبوك وتويتر وكل شبكات التواصل الاجتماعي دون كلل عن وفاة نيكانور بارَّا. ومِن أغْرب التدوينات التي قرأتُ فيها: "أبَدًا لم أتصوَّر إمكانية وفاة نيكانور بارَّا"، لكن ذلك حدث؟ أصحيح؟ أصحيح أنهم كانوا يتصوَّرون أن هذا الرجل سيعيش مائتي عامٍ، وثلاثمائة عام، وألف عام؟

كتبْتُ منذ مدة قصيرة عن هذا لدى حدوثه، عنْ كاتبة إِسْتُونِيّة كانت عند نهاية 2017 في التشيلي، وكان آخر ما قالتْه لي هو إن زيارتها لنيكانور بارّا في إقامتِه بلاسْ كْروثيسْ ظلَّتْ معلَّقة. هل هذا جِدّي؟ خمَّنتُ. هل اعتقدتْ أنه سينتظرها إلى غاية زيارتها القادمة لهذا البلد الذي ليس سوى "منظر طبيعي" ثمّ يَكُون الموتُ في هدوء؟ طبْعا، هي لم تقم بتلك الزيارة، فالموتُ لا ينتظر أحدا، وعلى الأقل عندما يخص الأمر رجلا تخطّى عتبة المائة عام.

في الواقع، كان حلم هذه الكاتبة هو حلم كثيرين... وواقع حال كل التشيليين تقريبا: إنه الرغبة في زيارة نيكانور بارّا في لاسْ كْرُوثِيسْ. وكان ينبغي في هذا المستوى أنْ نتساءل مَنْ ذا الذي لم يذهبْ إليه لِيَطرق بابَه. طيب، أنا لم أذهب. ولستُ نادمة. يومَ وفاة نيكانور، فِعلا، كنتُ أقرأ كتابا عن المُقابَلات التي أجراها ج.د.سالِنْغِر في حياته. وعلى النقيض تماما من بارَّا، كان الكاتب الأميركي يكاد لا يُرى، فكيف بأنْ تُجرى معه مقابلات. كان يكره أن يكون وجها عموميا، وعاش في بيت بقرية صغيرة في الولايات المتحدة، لم يتجرَّأ سوى قليلين على الاقتراب منه. وفي مقدّمة "آخر مقابلة وحواراتٌ أخرى"، يتحدَّث دافيد ستْرايْتفِلد عن نكتة قديمة تقول إن المُقابَلات مع ج.د.سالِنْجر يُمكن بحق أنْ تُجمَع تحت عنوان "ابتعدْ عن عُشبي Get off my lawn". وكان هِرْمانْ هِسِّه شبيها به.

كان يُكافح من أجل أن يظل على مسافة من العالم، وكان يكره أن يُطرَق بابُ بيته، بينما كان بارَّا على النقيض من ذلك. فمع انصرام الأعوام، كانت مواكب بشرية حقيقية تصل، بسابق إخبار أو دونَه، إلى بيته الشاطئيّ لِتُقدِّم له هدايا، أو لتُشاركَه كأس نبيذ، أو لمحادثته، أو لأخذ صورة معه، أو مِن أولئك الناس من كان يُهديه ديوانَه الشعري (آمِلا أن يكتشف بارَّا فيه شاعرا كبيرا مثلَه)، أو أنْ يُهديَه بارَّا كتابا له تفضُّلا منه، "اُنظر، لقد اشتريتُه تحديدا قبل المجيء إليك، وستغمُرني سعادةً بتوقيعه، فلا شاعرَ مثلَك، ولا شاعر قيْدَ الحياةِ يُشبهك، ويَلْزَم أن تفوز بجائزة نوبل، أنا متأكِّد من أنك ستفوز بها، سترى، نوبل القادمة لك...".

وأتخيَّل نيكانور بصبر قِدِّيس يستمع إلى أصدقائه وإلى كثير من الغرباء حَدّ التعب، وحتى الملل، فينهض من غرفة المعيشة دون أن يقول كلمة كي يذهب إلى قيلولته، أو ما لستُ أدري، لكن بعيدا عن جميع هؤلاء الناس الذين يعاملونه كإله، وأفترضُ أنه، من جهته، لم تكن له نية في أن يصير إلها أبدا.

لا أتخيّل عدد الصِّحافيين الذين وصلوا إلى غاية لاثْ كْرُوثِيسْ باقتناع راسخ في الحصول على أفضل مُقابَلة، والتي قد تدفعهم إلى عالم الشهرة بعد نيْلِهم منه لسِرّ لم يعرفْهُ أحدٌ من قبل عن حياته، وعاداته، وطريقته في الكتابة ووتيرتها، وعن حياته اليومية. لسْتُ أدري، لكنَّ حياته تتهيّأ لي بسيطة جدا، مثلما كان شِعرُه واضحا ومُشرَعا، لا خُبث فيه، وملؤُه فُكاهة وتلقائية. حياتُه حياةٌ فريدة، دُون مخاوف غبيّة، حياةٌ معيشة حتى آخر عواقبها.

لكنّي أعتقد أن شِعر نيكانور بارَّا، وشعرَه فقط، هو ما ينبغي أن يشْغَلني –أو بالأحرى- في هذه السطور. كان نيكانورُ شِعرَه، بمعنى ما. "أعتقد أنني سأموتُ بالشِّعر"، ذكر ذلك في "قصائد وقصائد مضادة". بالطبع، لقد كان –وسيبقى دوما- الشاعر المضاد الذي ندّد بتلك اللغة التي نخرها السرطان، والتي كان الشعراءُ المكرَّسون من جيله يتشبَّثون بها كما لو أنّ سماء الشِّعر التقليدي تتهاوى قِطعا. ما عاد بالإمكان –ولا هو كان يرغَب في- البقاء في ذلك الأولمب العصيّ بلوغُه على كل الفانين. ما عاد يرغب في مواصلة كتابة كلمات جسيمة أو جميلة مثل "قوس قزح" و"ألم"، وإنما صنع شعرا بموائد وكراس وأدوات مدرسية، مِثل صانع تقليدي. لقد دعا نيكانور بارَّا الشعراء إلى إحراق السفن، وإلى تشكيل أبجديَّتهم الخاصة "كالفينيقيين".

نَدين لك بالكثير، يا نيكانور. نَدين لك بالدّفعة الحيوية التي أعطيتها للشعر التشيلي اليوم. أنتَ تعرف ذلك. لكنَّ ذلك لم يجعلْكَ لا أكْبَرَ ولا أكثر سعادة. أو ربما كان ذلك. لقد قلْتُ من قبل إني لم أعرفْكَ أبدا، وأبدا لم أشأ أن أكون من أولئك الأشخاص الذين يذهبون إلى لاسْ كْروثِيسْ، ولو أنَّ من أعْرفُ منهم كانوا يعودون سُعداء، بقلب مزهو، والآن هم يتنقلون في كل النواحي ناشرين الصُّوَر التي "لا تُقدَّر بثمن"، والتي يَظهرون فيها رفقَتَك، مثل عظام مُقدَّسة، مثل آلات، مثل تَذْكارات.

من أين أبدأ فِعْلَ الحِداد، يا نيكانور. أيَّ شيء أقرأُ؟ "الإنسان المتخيَّل" للمرة التي لا تُحْصى؟ بالتأكيد. قصيدةٌ رفيعة. أعرف أنه، بمرور الوقت، ستظهر كُتُب لم تُنشَر من قبل، كتُب ما بعد الوفاة. قصائد كثيرة. وكم دفاترَ لك تكون قد سُرقتْ منك. هل أدْركْتَ أنْ تترك كلَّ شيء مُرتَّبا في "هذه المدينة الْمَقْضِيّ عليها بالاندثار"؟ كيف لي أن أتخيَّلك، أيها الرَّجل المتخيَّل؟ مِن أين لي أن أفعل؟ طبعا، بوُسعي أنْ أَنْظُر إلى صُوَرك وأنْ أتأمَّلكَ مِثل إنسان، لأن الإله الذي كنتَه بوسامتك، على الرغم من أنك كتبْتَ، مئاتِ المرات، أن لديْكَ أنفا عفنة، أو أنك أتلفْتَ عينيْكَ مُحضِّرا دروسا. لكن نظرتك، وزوايا وجهك، وشعَرَك الفوضوي، ويديْك... أكيد أنك كنت تعرف كيف تَعقِد مع النساء وتحلّ. أَعرِفُ أنهن قد عشقنَك بلا حدود. في الواقع، لسْتُ أدري إنْ كان ذاك يهمك. إلى أيّ مدى يمكن للحب أن يصل؟ أو من أيِّ مكان يُمكن أن يُباغت؟ هل عثرت على "امرأتك المخصوصة"؟ تلك "المرأة التي لها أن تكون ما تكون"؟ في النهاية، كم كُنَّ نسوتُك المُسمَّيات " مُونِيكَا سِيلْفَا"؟ كم مرَّةً أُغْرِمتَ؟ كم مرَّة جُنِنت؟ كم مرَّةً كنْتَ الأكثر حِكمة من الجميع؟

كنت سيِّدَ الكلام. كنتَ أخا، وأبًا، وجَدّا. كنتَ الأفضل، تقول عائلتُك. كُتِبتْ عنك آلاف المقالات. لستُ أدري إنْ كان سيُكتَب عنك المزيد، شيءٌ أصْلي. الشيء الوحيد الأصلي، الوحيدُ الذي يستحق العناء، بعد كل شيء، هو شِعرُك. أنْ يُقرَأ شِعرُك. لكنَّ القليل أو تقريبا لا شيء يُمكن إضافتُه في هذه الأسافل أو الأعالي، فمن بين جميع صُلبان المسيح بوادي إِلْكِي، ومن بين كل القصائد المُضادَّة والآلات، وأوراق العرائش التي ألتهمُ عناقيدَها منذ أنْ وُلِدتُ، ماذا يُمكنني أنْ أقول، يا شاعرُ، زيادةً على قولي إلى الأبد، يا صديقُ، يا أخُ، يا مُواطنَ أكوانٍ لانهائية.

على الرغم من طلبِكَ المغفرة من قُرّائك الأوفياء، ومن رغبتك في التراجع عن كل ما قُلتَ؛ وعلى الرغم من طلبِكَ المغفرة بسبب "تعبيرك بلغة مُبتَذَلة"، فبأي لغة أخرى كنتَ ستقوم بذلك "إنْ كانت هذه هي لغة الناس"؛ وعلى الرغم من قولك إن "الشِّعر يمضي –والقصيدة المضادة تمضي هي أيضا"، وأعتقد أن آثارَك هي الأكثر شسوعا إلى حدّ بعيد، والأكثر حِدَّة وذكاءً وتسلية وتواضعا وشجاعة ورُدودًا. شعرك شبيه بتلك المرأة (تلك التي كنتَ تبحث عنها) التي هي ما عليه، دون ادعاءات ولا أقنعة. امرأة حقيقية حتى الألم، لدرجة الإبكاء والإضحاك بجنون. أنتَ، يا نيكانور بارّا، لم تكن لتستحقّ نُوبل. أنتَ تستحق جائزة أكبر بكثير، ماديّة وحسابية مثل التي أبْرزْتَ، لكن، في الوقت ذاته، غير محدّدة ومضادّة للقصيدة نسبيًّا.


*Jessica Atal شاعرة تشيلية ولدت عام 1964 في سانتياغو لأسرة سورية مهاجرة. من مجموعاتها "تنويعات بأزرق عميق" و"نموذج أصلي" و"ستارُ فِيَلة"، أما أحدث إصداراتها فكان في 2016، وهي رواية بعنوان "واتساب، حب" والتي ظهرت فيها موهبتها السردية والقصصية. ارتباطها بالقضية الفلسطينية، نشاطاً سياسياً وكتابة، مردّه ليس جذورها العربية فحسب، بل يأتي انسجاماً مع قيم التحرر التي تؤمن بها، والتي تتجلى في شعرها ونثرها.
**ترجمة عن الإسبانية مزوار الإدريسي



المساهمون