المعتمد بن عبّاد في غربته الأبدية

المعتمد بن عبّاد في غربته الأبدية

10 أكتوبر 2015
تفصيل من أحد جدران "قصر المبارك" في إشبيلية
+ الخط -

ما الأكثر إيلاماً.. أن يُسلمنا التاريخ إلى النسيان أو أن يذكّرنا بأننا منسيّون؟
على امتداد الطريق الصغير الأسود، حيث بدت جبال "أوريكا" تحتلّ الأفق أمامنا وهي تكبر وتكبر، صاحبنا ذلك السؤال المضني ومطلع القصيدة يتردّد: "قبر الغريب".. "قبر الغريب"..

الطريق إلى أغمات في جنوب المغرب من مرّاكش ليس بالطويل، قرابة خمس وعشرين دقيقة ويُطوى الترحال. لكنها لم تكن كأية خمس وعشرين دقيقة؛ فقد تمادت الذكريات واستطالت، وكنّا حديثي عهد بإشبيلية في إسبانيا.

بدوتُ كمن يعبر ممرّاً تاريخياً ينزلق بي من هناك إلى هنا. زرنا قصر الملك بيدرو الذي بُني على أنقاض القصر المبارك. لذا، كانت الذاكرة حية تنبض، وقد طفت فوق موج النسيان. ومع ذلك السؤال، صحبَنا اسم المعتمد بن عبّاد (1040 - 1095).

ملك إشبيلية، الملك الذي حلم باستعادة وحدة الأندلس وتجميع دويلات الطوائف تحت اسم آل عباد وشمس الأندلس، فخاض في الموج حتى حيل بينه وبين أمانيه، بل كاد يغرق، فصرخ صوب المغرب: "لأن أرعى الجمال مع يوسف بن تاشفين، ولا أن أرعى الخنازير مع ألفونسو السادس".

جاءه ابن تاشفين ودحر ألفونسو إلى طليطلة، وما كادت تمرّ ثلاثة أعوام، حتى رجع مؤسّس مرّاكش ليقتلع المعتمد وينفيه إلى أغمات. إلى حيث مات، وصلنا.. إلى قبر الغريب.

عند دخولنا القرية، شممنا رائحة النسيان، كلاب مشرّدة تتقافز وصبية يدحرجون كرة بينهم، وطاعنون يلبسون "الجلّابة" ولا يرفعون رؤوسهم، فهم قد رأوا الكثير كما يبدو. بعد سؤالين وإشارة من أحدهم، وصلنا إلى صومعة بيضاء كُتب على بابها "ضريح المعتمد بن عبّاد". إذن، هنا "قبر الغريب".

دلفنا إلى حوش أندلسي وبجانبه غرفة لمحتُ فيها كتباً وصوراً. اجتزنا باب الضريح. هنا انتهت تلك الأحلام. ثمّة أحلام تُعدي الآخرين فيستكملونها، وأخرى تُدفن مع أصحابها. هنا استقرّ تحت التراب وغيّبه النسيان وتدافُع الأمم والتاريخٌ الذي لا يتوقّف.

الضريح بُني في السبعينيات، حسبما أخبرنا رجل انبثق من الفراغ. صار يحدّثنا عن المعتمد. كدتُ أطلب منه الصمت، فأنا أعلم من هو الشخص الغريب وكيف عاش وأعلم عن "البرق الذي يلمع في اسمه". لكني تركته يُكمل.

المعتمد يرقد إلى جانب زوجته اعتماد الرميكية وبينهما طفل صغير. في حياتهما كانا معاً، وبقيا كذلك في مماتهما. كأنه يهمس لها: "ولا يوم الطين"، فتتذكّر ليالي إشبيلية، يوم كانت رغباتها المجنونة أوامر، تشتهي أن تركض في الطين، فيصنع لها طيناً من مسك وعنبر وأخلاط، تخوض فيه وتخوض. وبعد الأسر، تعلمه عن خير ما رأته منه قط، فيردّ عليها هامساً: "ولا يوم الطين!".

الآن يرقدان متجاورين. قبل أن يضطجعا الضجعة الأخيرة، عاشا هنا حيناً؛ رأى بناته في الأطمار البالية، عاش الفقر، عاش الشظف، فتخلّت قصائده عن فخامة القصور، ولربما نسي الريح التي "صنعت على الماء زرد". نحتت اللغة وخرجت المعاني من فرن الحياة. هل للمعاناة أم للإبداع؟ ربّما!

رجعتُ إلى قصيدته الأثيرة التي طلب أن تكتب عند قبره، فتحقّقت أمنيته في غفلة من النسيان، حتى النسيان ينسى أحياناً. "حقّاً ظفرت بأشلاء ابن عباد". هذا القبر ظفر بمن عُقرت تحته ثلاث خيول في معركة الزلاقة. يوم تخضّب بالدماء، يوم نصر وهزيمة.

تأمّلت القبر المزدان بالنقوش الأندلسية التي أحب، خاطبته: "حسناً، القصيدة قد كُتبت بقربك، فتحقّقت أمنية. ولقد كدت ترعى الجمال إلا قليلاً. فماذا لو رعيت الخنازير؟!". لم يرد فقد طوى ظلّه، وهو نائم وهادئ. سألته: "ما الحقيقة؟". قبل الخروج، سجّلتُ سطراً في دفتر الزيارات، وعُدت لأسأله: "ما الأكثر إيلاماً.. أن يُسلمنا التاريخ إلى النسيان أو أن يذكّرنا بأننا منسيّون؟".

سمعت إجابته ولن أخبركم بها. عدنا من هناك وصمتٌ ران علينا.
وعاد إلى غربته.

* كاتب من الكويت



اقرأ أيضاً: يوميات مغربية

دلالات

المساهمون