قوقعة

قوقعة

09 مايو 2018
فرناندو دي سيسلو/ البيرو
+ الخط -

لم يأت الصيف في هذه الأيام. هذا ما تعلنه السنابل الأرجوانية، وأخرى صفراء، والأوراق البرتقالية اليابسة والعملاقة. هي لا تزال شريدة السماء وهي تنعم علينا بالضوء الأخضر الأبيض. ها هو يهطل من بين غيومها. أمشي ملاحقاً نفسي، بل أركض تحت عتمة البلاط الرماديّ. أما هو، فالأسلوب الذي يتبعه بالركض لا يوحي بدعسة القدمين، بل هو أشبه بصوت الـ"تك" عند عصفور القرقف. الـ"تِك، تِك-تِك، تِك، تِك-تِك"، وهكذا دواليك، قرقفاً بقرقفٍ.

يزعق بصوتٍ أخضر مرٍّ لا يسمعه أحد. لقد ضاع بين ضجة المارّين والباقين. تتحوّل الزعقة إلى ركضٍ، ويتحوّل الركض من السير على قدمين إلى صوت يصدى، وتتحوّل الزعقة إلى زعقة مكتومة، أي إلى بقعة، إلى ذراع تمرّ، ركضاً، من فوقي. حركة الركض هي حركة أفقية، وأشعة الشمس تصقل من الطرف الآخر.

بقايا شعر ووحل مترسّبة في تجويفات وجهه، وفي ثقوب بنطاله، عند مفاصل الركبتين والكاحلين. بنطاله الذي أكل الدهر على لونه وشرب. لكن هناك سيل طيّب من لعاب ووديان وعرق يحلّي البرد بالدفء، يحلّي النهار بالأوراق المبللة. يرتدي معطفاً حاجباً للصوت. الصوت يركض وأنا أركض معه. الصوت يمرّ من فوق لحم الكائنات. بين غصن وغصن، طيور سوداء. يعرف طريقه: من وإلى. يصرخ بين قهقهة وأخرى: عليّ الاختباء بين الأخضر الرطب! العصافير للشجر كالشوارب للأفواه: ترسم الابتسامة على وجه الأخضر. يقف فجأة. ينظر إلى كساء من الغيوم العالية العالية، البعيدة البعيدة، ويركض من جديد على طول الخط الأبدي في المستطيل الأخضر.

هناك حديقة مصطنعة، ضيّقة، زرعوها هناك منذ القدم واستحمّت حديثاً. يمشي في وسطها، في يومٍ من أوراق المانغا، على طول مسلك يصطفّ على جانبيه الحصى والوديان والنرجس الأصفر الأصفر. يراها هناك، وهو يمشي، معلّقة على أغصان شجرة الجوافة: الأجربة الثلاثة والطنجرة المحشوة بالطعام.
"طنجرة ولقت غطاها"، وتغيب القطة ويلعب الفأر.

كالنّاعم وسط الخشونة، كقشرة حبّة المانغا على الشجرة الداكنة، يتمكّن من سرقة دمية القماش وقميصين وجدها داخل الأجربة، ويأخذ معه الطنجرة، ويهرب، بسرعة. من شدة حذاقتهم، لم ينتبهوا عليه. لكن، على قول المثل، الطنجرة على الشجرة خير من الرغيف في اليد، إذ فعلاً رأوا شيئاً يتحرّك بين أوراق الشجر. لقد ظهر لهم على شكل صورة رقمية لبصمة الأصابع، على شكل سحاب أخضر يتسع. لكنّهم، وهم يقتربون من موقع الجريمة، بالكاد يجدون قطة حائرة تتسلّق غصناً لتبحث فيه عن عشّ ضائع.

يستلقي على الأسفلت الطازج في رطوبة بيته الآمن والمحصّن بورق الكرتون. كرات اللعاب تتدحرج من فوق فمه. الجوع كافر والأرز كافر. في موقعه، تحت الجسر الذي يعتمره كالطاقية، الشمس تغرب عرقاً. لكن لا يزال هناك متسع من الوقت للغروب. يلتهم البيضة المسلوقة، كالشمس، في الخفية. قرص يصبغ الأخضر، يأخذه نحو الصفار، نحو الحرّ العاري. الألوان، في هذه الساعة، تتلطّخ بوتيرة أسرع.

تغريدة بتغريدة وبعيون دامعة، حمراء. في ساعة الزحمة، شيء بنيّ يسيل عند قدميه. يلتقطه بيديه، يلحسه، ويخرج من فضاء ظل الجسر كالطير الجريح، باحثاً عن شجرة. لكنّه لا يريد أن يختار أي شجرة. يتوقّف عن الحركة، يرخيه ليسقط دون اكتراث. يفرج عن مؤخرة ناعمة وسمراء. إنها لمؤخرة أنيقة، هادئة، تلغي صوت قرع طبول الأضواء حوله. يتكئ ظهره على الشجرة الحلزونية في وسط القوقعة العملاقة بالضبط.

على يساره: شجرة عرف الديك بتيجانها الحمراء التافهة. على يمينه: حصان نحيف، لونه بين رماديّ وبنيّ، يرعى العشب الأصفر. وهو في الوسط داخل إطار من الهواء، والهواء، كما نعلم، هو عبارة عن غطاء طنجرة مُزخرف بأشعة الضجة ولولباتها الحلزونية. يبدو أن الشيء البنّي الذي سال كان كافياً، فلا تلاحظ على وجهه ملامح الإجهاد. بين زمامير السيّارات يسرح فكره إلى السماء، السماء التي ستجعل من الضوء حوصلة، عمّا قليل.
أركض تحت أشجار الغروب، والمياه، جسراً بجسر، تجلب معها الليل.


* Mario Ángel Quintero شاعر وكاتب قصة كولومبي تمثل تجربته التيار الجديد للكتابة في بلده.

** ترجمة عن الإسبانية: شادي روحانا

المساهمون