شفيقة وعيل: قراءة في الذي رأى

شفيقة وعيل: قراءة في الذي رأى

01 ابريل 2018
من "مواقف" النّفّري، مقطع من عمل لـ رشيد قريشي
+ الخط -

تحت عنوان "الذي رأى: محاولة أخرى لقراءة النّفّري" ألقت الباحثة الجزائرية شفيقة وعيل محاضرة في "الجامعة الأميركية" في بيروت، الأربعاء الماضي، تناولت فيها جدلية علاقة اللغة بالتصوّف عند محمد بن عبد الجبار النفري (توفي عام 354هـ تقريباً)، إلى جانب إشكاليات أخرى تتعلّق بالكتاب وسيرة صاحب "المواقف".

عادت الباحثة إلى مخطوط لم يُعتمد من قبل، وهو مخطوط موجود في مكتبة "آيا صوفيا" في إسطنبول، غير أنّها لم تذكر عنوان المخطوط أو تشير إلى شيء من مضمونه، بل لفتت فقط إلى أن محققَي النفري آرثر جون آربري، والأب بولس نويا، لم يعودا إليه، وأنه مخطوط يزيل بعض الالتباسات التي يقع فيها الباحثون، حيث افتتحت وعيل محاضرتها بالقول إن النفري الذي عاش بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، يعتبر إحدى الشخصيات الإشكالية في تاريخ التصوّف على عدّة مستويات، المستوى التوثيقي والتاريخي وعلى صعيد التجربة والنصّ واللغة.

وقفت وعيل عند عقبتين تواجهان كل من يتصدّى للبحث في النصّ الصوفي عموماً والنفري بشكل خاص، ذلك أن الإشكالية الأولى هي الفصل بين الوجداني والموضوعي، لأن قارئ النفري على وجه الخصوص يشعر أنه تحت سطوة اللغة وسلطانها وفقاً للمحاضِرة، العقبة الثانية هي كثرة تناول النفري التي جعلت الباحثين يعتقدون بسيولة النصّ لديه، وصار كل من يبحث في اللغة أو التصوّف يدرس النفري، ما يجعل صاحب "المخاطبات" مُقولباً في فكرة اللغة والنظر إليه من خلال هذه الزاوية.

قدّمت وعيل بعض المراجعات عن شخصية النفري نفسه، وحول الكتاب وبعض القراءات والاسترجاعات التي استعادته، وتوقفت عند استعمال العرفان للأدوات اللغوية. حول النفري تقول إنه كان سوّاحاً لا يستقر بأرض ولا يتعرّف إلى أحد، وقد يكون يهودياً أسلم أو مجوسياً أو مانوياً لم يسلم، أو مدّعياً للمهدوية، أو أن هذه كلّها ما تريد المصادر أن توحي به. لكن الباحثة تشكّك في كل هذه المعطيات، لأنها ما زالت غير مؤكدة، وواقعة تحت سطوة التساؤل، وفقاً لتعبير وعيل.

ترى المحاضرة أن هناك خلطاً أساسياً بين النفري وبين مريد له، مبيّنة أن هذا ما تُثبته مخطوطة آيا صوفيا التي اطّلعت عليها، فهناك "رجل رأى وقال ما رآه في كلام آني، ورجل سمع شيخه ثم دوّن ما رؤي ونسخه لاحقاً". والأوّل هو النفري والثاني هو أبو عبد الله محمد البصري وهو المُريد.

تتساءل الباحثة عن غيبة النفري لأكثر من مئتي عام، حيث لا تذكره الكتب ولا التراجم ولا كتب التصوّف ولا كتب التاريخ، إلى أن يطلع فجأة عند ابن العريف في الأندلس، وبعدها يظهر في كتابات ابن عربي فيقتبس من كتاب "المواقف"، ويفسّر تجربة المواقف، ويتحدّث عنه كما لو أنه شخص معروف، فكلام النفري كان معروفاً بشكل شفهي بين الناس، وعلى شكل جذاذات ليست مجموعة، وليس هناك تفسير منطقي لظهور النفري في المغرب.

تلفت الباحثة إلى أن مخطوطة آيا صوفيا لا تقسّم الكتاب إلى مواقف ومخاطبات، ولا تذكر أن هناك جزأين، بل كلها مواقف فلا يوجد عنونة للمواقف وأخرى للمخاطبات، كل المخاطبات في هذه المخطوطة تندرج تحت الموقف، هنا تؤكد وعيل على أن هذا يتّسق مع لبّ تجربة النفري، التي "تقوم على الموقف الذي لا يكون موقفاً إلا إذا كانت فيه مخاطبة، بين ذاتين؛ ذات الواقف وذات الله، يتعرف من خلالها على المعارف المتعالية".

تعود الكاتبة إلى تجربة استرجاع النفري عند ابن عربي، والثانية تجربة أدونيس التي استعادت وعينا المعاصر به، كلاهما أضاء على نواح كثيرة من تجربة النفري. قدّم الأول قراءة ذاتية لتجربة الموقف، معتبراً أنه مساحة بينية عرفانية، معتمداً على مفهوم "البرزخ"، الذي يبني ابن عربي رؤيته للوجود عليه، حيث "البرزخ حائل بين شيئين وعنده هو الحائل بين عالم الغيب والشهادة، يلتقي العالمان فيه وتتحقّق كل إمكانيات الخيال"، وهو الذي يصف به الموقف عند النفري.

تخالف وعيل قراءة ابن عربي، وتقول إن النفري لا يرى الموقف مساحة بينية، بل إنه يقول إن الموقف "منتهى أقصى ليس بعده شيء". كما أن هناك فرقاً أساسياً بين النفري وابن عربي وهو المجاز والحقيقة، فهو يصرّ على فكرة الخيال اللغوي في البرزخ الذي ينتج ويثمر ويبني عالماً، بينما النفري يرفض الخيال ويقول إن تجربته حقيقة، وفي حين يستخدم ابن عربي تعبير "كأنك ترى" يستخدم النفري "إنك ترى"، ويقول "أوقفني في الثوب وقال لي إنك في كل شيء كرائحة الثوب في الثوب. وقال لي ليس الكاف تشبيهاً هي حقيقة أنت لا تعرفها إلا بتشبيه".

أما أدونيس الذي يرى أن قصيدة النثر بدأت عند النفري، فيقول: "الحداثة الشعرية ليست مجرد بنى وتشكيلات كلامية فهي تفترض معرفة الشاعر العربي نفسه بوصفه ذاتاً وبوصف هذه الذات لغة، وبوصف هذه اللغة أداة كشف وإفصاح وإيصال"، وتحاجج وعيل أن التعريف وعناصره لا ينطبق بأي شكل من الأشكال على النفري. فهو ليس شاعراً يعرف نفسه، فالموقف كله حيرة: "الحرف سقط واللغة سقطت ووقع عالم اللغة والدلالة والاسم والمسمى، وهو لا يريد الكشف والإفصاح، بدليل أنه يقول كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".

دلالات

المساهمون