وجوه الخيال

وجوه الخيال

16 يناير 2018
عبد الهادي الجزار/ مصر
+ الخط -

لولا الخيال لما كان لـالأدب والفن وجود. لا تزيّد في هذا القول، فالواقع يتجسّد من خلاله، ولو كان الشطط دليله. الخيال متطرف بطبائعه وأساليبه، وإلا لم يضف شيئاً، وهو ما يمنحه امتيازه. يغيب عن كثيرين أنه تكثيف وانعكاس وتركيز، باختراقه البؤر الخفيّة، وغوصه في الأعماق السحيقة الملتاثة بالغوامض والأشباح. إنه أداة اكتشاف.

لن نفيه حقه من المديح، لكن لا ينبغي قصر الحديث على حسناته، وإغفال كبواته ونزواته، انحرافاته وآفاته، لا سيما وأن الإنسان مجاله الأوسع، يدفع أثمان شطحاته، والعشاق أكثر من عانى منه، وشيّدوا تحت تأثيراته قصوراً على الرمال، فكانوا الأكثر تعرضاً للخديعة، فالظن ذهب بهم إلى أن أحبابهم يبادلونهم الحب، فإذا بهم فريسة أوهامهم، لا يدرون إن كان قد غُدر بهم، أو أن عواطفهم غرّرت بهم. لو كانوا واقعيين لما غرقوا في أحلام غرام كاذب، لكن الحب يحجب الحقيقة.

ليس الواقع فقط، ما يجمع بين البشر، وإنما أيضاً رقعة لا حدود لها من الخيال، سواء كان في الصداقة أو المنفعة أو العمل، تعمل على التقارب بين طرفين وتكوين علاقات يُعتقد أنها متشاركة، تجعل التفاهم بينهما مُيسّراً ومنفتحاً على بناء أواصر متبادلة، أما ماذا تكون، فهذا يعتمد على ما يتصوّره كل منهما.

لا يتغيب الخيال عن الخصومات والمآسي... فالعداوات يمكن توهّمها، وقد تكون مجانية بلا سبب، أو على الأقل سوء تفاهم، وهو الأكثر وروداً بين الناس، ما يؤسس لعلاقة مريضة مُصابة بتهيؤات مضلّلة، تتكئ على أفكار خاطئة، للخيال نصيب كبير في تفاقم وساوسها، وانتقالها من طور إلى طور، وعلى هذا المنوال تنحدر إلى الأسوأ.

كما أن له أساليبه الماكرة، إذ يستحيل أن تحدُث جريمة عن سبق تصوّر، إن لم يرسم الخيال خطواتها، حتى الجرائم التي هي بنت لحظتها، سبق تخيّلها ضد طرف مجهول، فاليد لا تمتد إلى السلاح، إن لم يكن الخيال قد أعدّ حامله من قبل لمثل هذه اللحظة.

للخيال أيضاً عمل إبداعي لا يستهان به؛ نزع العاديّة عن الأشياء، وإضفاء لمسة من الجاذبية عليها، فلولاه لكان الجنس عملاً عادياً ممّلاً لمجرد أنه يجب تكراره، ومثله تناول الطعام، والعمل الوظيفي.

لو لم يبتكر الخيال تنويعات وتجديدات توحي بوصفات ونكهات متنوعة، وإن كانت مخادعة، لأصبح العيش سقوطاً في روتين اضطراري لمجرد البقاء على قيد الحياة.

هذا، إضافة إلى امتداد أنشطته إلى جميع مناحي الحياة؛ فعدا العلم والأدب، تصميم البيوت، وتشييد الأبنية، وديكور المنازل والمكاتب، والأزياء.... لو أجلنا البصر حولنا، لأدركنا سطوته ونعمته، لقد منح للعالم جمالاً، لا ينقصه، نبّهنا إليه، وكان مخبوءاً، وكأن البشر لم يوجدوا على الأرض إلا للتعرّف إليه، والتمتّع به. وقد يخيّل إلينا، أن عالمنا مصنوع منه، لولا قباحة الشرّ وبشاعته.

المساهمون