الضاد في أفواه ماكرة

الضاد في أفواه ماكرة

20 اغسطس 2017
إياد القاضي/ العراق
+ الخط -

حين يبتهل دي ميستورا ضارعًا: "الله كريم"، في ردٍّ ساخر، على ناقدي تعثراته العديدة، أو حين يهنِّئ قبله بسنواتٍ "حاكم العراق" بول بريمر مَن أحاط به من المُستقبِلين المتزلّفين: "مَبروك العراق الجديد!"، وحين يعلن غير واحدٍ من الساسة، في ثنايا تدخلاتهم الإعلامية: "إن شاء الله".

أو حين تضمِّن- وهذا هو الشكل الأرقى - مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين دي لاغارد، وهي تتطرق إلى الخطوات الواجب على الحكومة المصرية اتخاذها، كلماتٍ من رائعة أحمد شوقي: "سَلوا قلبي"، ومنها توردُ بالعربية: "وما نَيلُ المَطالب بالتَمَنّي"، ولما يستشهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بآية من القرآن... والقائمة طويلة، فإنَّ استدعاء العربية في خطابات المسؤولين الغربيين تغدو ظاهرةً ثابتة في المشهد السياسي الراهن، وتستحق بسببٍ من هذا الاطراد الدرسَ والاستقصاء، للبحث عن الوظائف التواصلية والسياسية التي يُؤديها استشهاد ساسة الغرب بعبارات ونصوص ينطقونها بالعربية، ويقتبسونها إما من السجل الفصيح أو الدارج.

في ظاهر الأمر، تبدو العملية حركةً وديّة محدودة، يخطب بها هؤلاء الساسة ودَّ الجمهور العربي، ويظهرون لهم علامات الإجلال لثقافتهم وأنهم بذلوا مجهوداً في تعلّم لغتهم، على عُسرها، والاطلاع على حضارتهم رغم تشعُّب تياراتها. كما قد يوحي ظاهر هذه العبارات بوجود قرابة ثقافية بين المتكلّم والعرب، ويشي إدماجه إياها، ولاسيما في التصريحات الرسمية، بتعاطفه مع العرب والمسلمين وقضاياهم، ورغبته في مشاركتهم أفراحهم والأتراح. ولكنها تحمل في باطنها مركزية أوروبية، وتدل على شعورٍ بالفوقية، فجوهرها أنَّ المسؤول الغربي يَتَفضل على العربي بحفظ كلمات من لغة الضاد، ويستعملها في مكر ومخاتلة، في أحلك فترات التنازع بين الكتلتين: مثل حقبة احتلال العراق والحرب السورية.

ومن جهة ثانية، تهدف هذه التضمينات إلى تخفيف ذكرى التاريخ الاستعماري في العالم العربي، وتلطيف آثاره التي لا تزال حية في الضمير الجمعي، تمويهاً بأنَّ عهد الاحتلال الذي كان فيه المستعمر يفرض لغتَه وثقافتَه على الأهالي، قد انقضى بلا رجعة. وفي ذات الآن، تخفف هذه الاستشهادات من حدة التدخل الأجنبي الحالي في شؤون المنطقة العربية، والإيحاء بأنه كان لمصلحة هذه البلدان، وينبع من شعورٍ حقيقي بالصداقة والتضامن، ولاسيما في "محاربة الإرهاب" الذي غدا لازمةً لا تنفك عن أي خطابٍ سياسي وتبادلٍ دبلوماسي أو إعلامي.

فنطق كلماتٍ عربية من شأنه أن يخفيَ - بذكاء ومكرٍ- حقيقة الأغراض السياسية التي يمثلها ذلك "الناطق الرسمي". وفيها إشعار بأن نزع فتيل الشرِّ يكفي فيه أن تدمج عبارات عربية، تبعد عن هؤلاء المسؤولين الشيطنَةَ وتضفي عليهم صفة المثقفين المهتمين بثقافات الآخر، في تبنٍّ واضح لأطروحات ليفي ستراوس عن "النسبية الثقافية".

وأما من الناحية الألسنية المحضة، فإنَّ هذه الاستعمالات تحقق العديد من الوظائف البراغماتية، بل إنها تغدو بمثابة شرطٍ من شروط إنجاح التفاوض، وبناء جسور التواصل عبر إضفاء أجواء من الثقة المتبادلة بين الطرفين. فتكلم المخاطب بلغتك دليل على احترامه لهويتك، إلى درجة يصبح معها هذا "الاحترام"، المعلن فقط عبرَ التلفظ بكُلَيْماتٍ عربية، هو نفسه مضمون الرسالة وحقيقة الفعل الإنجازي، إذ لا توجد أية رسالة في المكونات اللغوية من كلمات وأبنية نحوية وبلاغية، وإنما تنشأ عبر الأثر النفسي الإيجابي المُحقق، وعبر الردِّ الاجتماعي (ابتسامة، تصفيق، مسايرة...) الذي يتولد من تبادل تلك العبارات وهي تُساق في معرض المجاملة واللياقة.

إنَّ هذه الظاهرة، وهي لم تنل هي الأخرى، اهتمام الباحثين في الألسنية وعلوم التواصل جديرة بأن تكشف حقلا بِكرًا في المنظور التداولي والبراغماتية الدلالية. فهي تهدف إلى تحقيق غاياتٍ استراتيجية، تتوسلُ بالكفاءة اللغوية ولا تجري فيها، وتتباعدُ عن دلالة الكلمات ولا تؤديها، لأنها تمسُّ حساسية لدى المتلقي، لا منتجَ الخطاب، وتقول شيئاً آخرَ عدا ما تحمله بنية الجُمل الظاهرة.

في سياق التنازع الغربي - العربي، بمختلف وجوهه الثقافية والسياسية والعسكرية، تظل دلالة هذه الملفوظات، المختارة من الضاد، واحدةً: الإيهام باحترام الثقافة العربية، في ذات الآن الذي تنتهك فيه سيادتها ويشكك في شرعيتها، وهذا الإيهام من بين استراتيجيات عديدة على التفكير الألسني تعريتها.


* كاتب وأستاذ جامعي تونسي مقيم في فرنسا

المساهمون