عيسى ديبي.. المنفى ومرثياته

عيسى ديبي.. المنفى ومرثياته

10 فبراير 2019
(عيسى ديبي)
+ الخط -

يجمع معرض "المنفى عمل شاق"، الذي انطلق في "غاليري فتّوش" نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي ويتواصل حتى 31 آذار/ مارس المقبل، تجربتَين سابقتَين للفنّان التشكيلي الفلسطيني عيسى ديبي (1969)، يعود بهما إلى مدينته حيفا في فلسطين المحتلّة، بعد غيابٍ عنها استمرّ قرابة عشرين عاماً.

اختار ديبي لمعرضه الجديد عنواناً تختلف القراءات حوله، حسب الزاوية التي يُقرأ منها. عن ذلك، يقول في حديث إلى "العربي الجديد"، إن "خيار العنوان أثار في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة عام 67 جدلاً يتعلّق بفكرة المنفى ومعناها؛ فثمّة من قرأه بشكلٍ سطحي شبه أيديولوجي، وثمّة من اهتمّ بفكرة الخروج الإرادي من الجغرافيا إلى المنفى الاختياري المغاير للمتعارف عليه شعبوياً عند الحديث عن النفي، بوصفه فعلاً عنيفاً ومباشراً".

يضيف: "عنوان "المنفى عملٌ شاق" تُلخّص تجربتي الشخصية بعد قرار الخروج الطوعي من الحيّز المحلّي إلى العالمي، ثم إلى البيت العربي. إنه حالة فكرية ذاتية أعيشها منذ عقود، وهذا شكلٌ من التعبير الحقيقي عن الذات".

يضمّ المعرض عملَين؛ أوّلهما يحمل عنوان "المحاكمة"، وهو تجهيزٌ وتركيب أدائي يمزج بين عددٍ من الوسائط؛ حيث يتقاطع فيه فنّ الفيديو والأداء والمسرح والسينما، وقد أنجزه الفنّان عام 2013، وشارك به في "بينالي البندقية" في العام نفسه.

في عمله هذا، الذي يستعير عنوان رواية "كافكا" التي أصبحت رمزاً للإنسان المضطهد في ظلّ الأنظمة العبثية، يقوم ديبي بإعادة تمثيلٍ وقائع تاريخية عاشها الشاعر الفلسطيني داود تركي (1923 - 2009) الذي كان يُمثّل جماعةً يسارية تحمل اسم "مصبن"، وحوكم في محكمة حيفا عام 1973، ثمّ سُجن بعد ذلك لمدة 17 عاماً.

أمّا الشقّ الثاني من المعرض، فهو تجربة "الوطن الأم" التي أنجزها الفنّان عام 2016 وشارك بها في "بينالي جانكالي" بتركيا. العمل، أيضاً، عبارةٌ عن تجهيز مركّب يتناول فيه الفنّان علاقته بالأمومة والمكان؛ حيث يرثي والدته الراحلة عبلة ديبي ويستعيد ذكراها. أُنجز التركيب بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد بين جنيف، حيث يقيم، وحديقة "السنترال بارك" في مدينة نيويورك، والتي بُنيت بالأسلوب الفيكتوري على غرار الحدائق الإنكليزية، ليربط المكانَ بالتاريخ الكولونيالي لبريطانيا الذي يمتدّ من أميركا إلى فلسطين، خصوصاً أنّ الحديقة أُقيمت في محمية طبيعية تعود إلى سكّان أميركا الأصليّين.

عن العودة بعد عقدَين من الغياب إلى مدينته حيفا، التي جرت فيها "المحاكمة"، وكيف يؤثّر المكان على العرض، يقول ديبي: "العودة الى حيفا هي أكثرُ من مجرّد حضور مجازي. بعد غيابٍ ثقافي منذ أواسط التسعينيات عن الحدث الفنّي المحلّي الفلسطيني بشكل خاص، أتت الفرصة ليتمكّن هذا المعرض من أن يحضر من الجانب الآخر للوطن إلى مدينة الفكرة، والعودة إلى بيت الفكرة هي عودة إلى الروح، والمكان والذكريات".

"حيفا هي البداية"، يقول ديبي، ويضيف: "إنها الفكرة القائمة دائماً، فأنا أنظر إلى مدينتي من بعيد كأرشيف لأفكار وقصص وأحداث مستمرّة بشكل موازٍ لرحلتي الطويلة خارج المكان الأول: البيت، الحيّ، المجتمع، الثقافة، والحياة المركّبة في الداخل الفلسطيني".

لم يكتف ديبي بالعمل البصري في معرضه، بل لجأ أيضاً إلى الكتابة؛ حيث اقتبس عدداً من النصوص من دفترٍ كان يدوّن فيه تأمّلاته بعد رحيل والدته، وجعلها تتداخل مع التجهيز. لماذا اللجوء إلى الكتابة في عمل فني؟ سؤالٌ يُجيب عنه بالقول: "النصوص هي جزءٌ من فكرة العمل الذي كان مجهّزاً للعرض بنسق فن الفيديو، على شكلٍ مغاير للنتيجة الحالية، وذلك مردّه التغيُّر في الحدث السياسي والثقافي في موقع العرض".

يضيف: "النصوص، هنا، خاصّةٌ جداً، وكان من المُفترَض أن أقرأ بعضاً منها في معرض آخر، غير أنني اكتفيت بوضع جزء منها في الأعمال لكي تثير الفضول عند المتلقّي وتعطي للعمل بعداً شبه نثري روائي".

نسأله، هنا، عن حضور الأمّ في عمله وارتباطها بالوطن، فيُجيب: "الأم هي بداية الأشياء، والأمومة هي أهمّ مشروع إنساني على الأرض. هنا، أريد أن أتخلّى عن الفلسفة والنظريات وأدّعي أن العمل الفنّي تبلور من حاجة ذاتية بحتة تَرى في هذه العلاقة المركّبة بين الأم والابن فكرةً مجازية للوطن".

ولكن ما الذي فعله المنفى بعيسى ديبي؟ يقول: "تعلّمتُ الكثير خارج القفص الإسرائيلي، وأعدتُ تركيب علاقتي بمكاني الأوّل بشكل نقدي ومركّب، خارج مفهوم النوستالجيا والعاطفة. ولكن، هل نحن منفيّون بسبب الخروج، أم يُمكننا اعتبار أنفسنا حاضرين غائبين في حالتنا الفلسطينية في الداخل، وعلاقتنا مع المؤسّسة الحاكمة؟ وهل ينبغي أن نخرج جسدياً من المكان لكي نشعر بالاغتراب؟".

يحمل "المنفى عمل شاق"، في طيّاته، عدّة ثيمات تشكّل في مجموعها الهويّة التي تُكوّن تجربة عيسى ديبي الفنّية: الأم، والوطن، والمنفى، والاحتلال، والاستعمار. إنه معرضٌ تجوَّل به الفنّان بين عدّة مدنٍ أوروبية في ألمانيا وإيطاليا، ثم في مدن فلسطينية؛ حيث أُقيم في "متحف بيرزيت"، ثم القدس وبيت لحم، ثمّ حيفا.

يقول ديبي: "المعرض/ المشروع هو تلخيصٌ لمرحلة بها نغلق دائرة، ونفتح باباً جديداً لفكرة جديدة. لكن هنا في حيفا، شعرت أن بإمكاني القول إن المعرض بحضوره في مكان الفكرة اكتمل وأصبح الآن جزءاً هامّاً من تاريخ المدينة وثقافتها وهذا أكثر من كافٍ".

هل هذا يعني أن ثمّة فكرة الآن حول مشاريع الفنّان المستقبلية؟ كان ذلك سؤالنا الأخير لعيسى ديبي الذي أجاب بالقول: "الآن وقت التلخيص والتفكير وإنهاء بعض المشاريع العالقة. أمّا بالنسبة إلى المستقبل، فسنعرف ما يحمله لاحقاً".

دلالات

المساهمون