السوداوية في الفن السوري: عود على بدء

السوداوية في الفن السوري: عود على بدء

23 اغسطس 2018
من معرض للفن السوري في مدريد، 2018، سيليستينو آرسي)
+ الخط -

في عام 1977، هبطت طائرة أنور السادات في "مطار اللد" بفلسطين المحتلة معلنة بداية مرحلة جديدة من الصراع العربي-الإسرائيلي. تمّت في تلك السنة وفي السنوات اللاحقة، تنحية خيار المواجهة العسكرية في هذا الصراع لصالح محادثات أسفرت عن توقيع بعض البلاد العربية معاهدة سلام مع "إسرائيل". انعكس هذا التغيّر الجديد في شكل الصراع في كافة المجالات الثقافية والفنية في العالم العربي، وخفتت أصوات كثيرة كانت تنادي بمواجهة أو محاربة هذا العدو.

أحسّ أغلب الفنانين السوريين ممن كانوا يحاولون أن ينقلوا عبر أعمالهم رسالة ثورية للجمهور بخيبة أمل بسبب فشل المشاريع السياسية، التي لم تتوصل برأيهم إلا إلى الهزيمة الكاملة.

ولما كانوا على يقين بعدم قدرة البلاد العربية على حل هذا الصراع بشكل عادل أو كما يشتهون، فقد تخلّى كثير منهم، يائسين، شيئاً فشيئاً عن مواضيعهم "الثورية" هذه لصالح البحث الأسلوبي أو الشكلي، والشخصي البحت الذي لا يعير الموضوع الوطني أو السياسي أي اهتمام.

إلى جانب هذا، كان هناك تيار آخر راح يتشكل في سورية عشية حرب حزيران 1967 وأخذ يختمر خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات، لا سيما في عام 1982، حين عاشت سورية عندها صدمة مؤلمة جراء الهزيمة العسكرية للجيش السوري المتمركز حينها في لبنان أمام الجيش الإسرائيلي.

وقد تجلى هذا التيار من خلال فن قاتم المظهر، يعبّر عن مرارة الهزيمة عند الإنسان العربي. وهذا الاتجاه نستطيع أن نقول عنه إنه أحد أهم الاتجاهات التي تميّز الفن التشكيلي السوري والذي لا يزال مستمراً حتى الآن: إنه الفن السوداوي أو العنيف.

يظهر هذا الاتجاه بشكل قوي عند لؤي كيالي في معرضه "من أجل القضية" في عام 1967. مع ذلك، كان يجب انتظار منتصف السبعينيات لكي يرسخ هذا التيار نفسه في الرسم السوري عبر أعمال فنانين معروفين مثل خزيمة علواني وفاتح المدرّس.

وقد تأثر المدرّس كالكيالي بالنكسة التي عاشها قبل حلولها، فظهرت الوحوش في لوحاته، ثم تضاعف وجودها أثناء حرب لبنان الأهلية التي خصّص لها العديد من اللوحات مثل: "بيروت تحترق" و"أطفال حرب لبنان"، وقد ظلت الوحوش ماثلة حتى في آخر أعماله، كما في لوحات "الفتاة والوحش" و"الأبرياء والوحش" التي تعود لعام 1994. وكان الفنان يريد من خلال هذه اللوحات إظهار استيائه من الوضع السياسي الراهن في البلاد دون أن يجرؤ على الذهاب أبعد من ذلك في النقد.

كما شهدت سنوات السبعينيات ولادة سلسلة من أعمال حفر تمثل جياداً قبيحة الشكل. كان ذلك بداية الإنتاج الفني الملتزم ليوسف عبدلكي، الذي كان قبل أن يستقر في باريس قد أمضى فترة في السجن في أواخر السبعينيات بسبب أفكاره السياسية. ولم تمنعه أبحاثه الأسلوبية، التي جمعت في رسمه المنظور الشرقي مع الغربي، من الاستمرار بالنقد اللاذع في أعماله للوضع السياسي في بلده وبتناول مواضيع حساسة جداً عبر لوحاته، كما عبر رسومات الكاريكاتير التي كان ينشرها في الصحف. وفي نهاية الثمانينيات، كرّس عبدلكي وقته لأعمال أيضاً مسيّسة أسماها "أشخاص". ويقدّم عبدلكي هذه المجموعة كتسوية حسابات مع الضغوط الرهيبة واللاإنسانية التي عانى منها جيله كما صرّح لإحدى الدوريات العربية في باريس سنة 2004.

في الواقع، لم تنقطع هذه السوداوية في الرؤية حتى هذه الأيام، فاستمر عبدلكي حتى وقت قريب يصوّر الجماجم في العلب المغلقة ورؤوس الأسماك المقطوعة. أما سبهان آدم، على سبيل المثال، فقد تابع بتصوير مسوخه الشنيعة، كما راح محمد عمران بتنفيذ رسومات بالأسود "قاسية" وعنيفة، لا تخلو من فرادة.

وربما نذكر هنا أيضاً معرض الفنانة بثينة علي الذي أقيم في "صالة أتاسي" سنة 2003، وهو عبارة عن عمل تركيبي بعنوان "وعود"، وكان احتجاجاً على "المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية" التي لم تقدم للشعب الفلسطيني أو العربي سوى الوعود، لذلك جاءت تمثيلاتها تحمل الخشية والقلق، وصورة معتمة للواقع العربي أو بالأحرى للمستقبل العربي. احتوى هذا العمل أيضاً عشر لوحات بعنوان "عنف": حرائق، أسلاك شائكة، صلبان، دمى مكسرة ومحروقة ومراكمة... ولا شيء إلا هذا.

وفي هذه الأيام، ومنذ دخول البلاد في أتون المعارك المتعددة، ازدادت الأعمال السوداوية التي تحمل القلق والخوف، والتي يصوّر فيها الفنان بشاعة الحرب، أو يعلن عن احتجاجه على ما يحدث بصيغة مباشرة، وفجّة أحياناً، أو مرمَّزة. وإن استثنينا بعضاً من الأعمال المتينة لعدد من الفنانين، فإن عددا كبيرا من المبتدئين وأصحاب المواهب المتواضعة يستغل موضوع الحرب والموت بأشكاله لتنال أعمالهم الفنية القيمة المطلوبة والشفقة "الأجنبية" المرجوة.

وأيضاً، وبغض النظر عن مستواها الفني، تقوم المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي التي تخصّ السوريين، بدور المروّج لهذه الأعمال كجزء من عملها المسيّس.

لكن الطامة الكبرى تتمثل في بعض النقاد والكتّاب الذين يشيدون على صفحات الصحف ببعض هذه الأعمال مستندين في الحديث عنها أو في مقاربتها على مراجع أدبية ونفسية أو سياسية دون الإشارة إلى الضعف الظاهر في الرسم أحياناً أو في التقنية أو الخلل في التكوينات حتى في أعمال فنانين معروفين، ودون الإشارة إلى تلك "الخلطة" الموجودة في أعماهم من أعمال باسكيا مع عوالم شيله مع نظرات وجوه كيالي مع صناديق عبدلكي مع صرخة مونش ووحش (زُحَل) غويا الذي يقضم جسد ابنه.


* فنان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا

المساهمون