معتوق أبو راوي.. أنفاس الغرقى في المتوسط

معتوق أبو راوي.. أنفاس الغرقى في المتوسط

05 يونيو 2014
+ الخط -

قضى الفنان الليبي معتوق أبو راوي خمسة عشر عاماً، هي عمره الفني، في التجريب والبحث والمغامرة. لكنّ تجربته تبدو أكثر غنى بعد استقراره للدراسة في إسبانيا، ومن ثم العمل في جامعاتها.

خلال فترة الانتفاضات والثورات العربية ظهر التحول الأهم في تجربة الفنان، حيث بدا شديد الاهتمام بما يجري حوله، بل راح يعمل على محاكاته بصرياً، ناقلاً التشكيل من فن يعتني بالجماليات إلى فن في خضم المشهد العام.

آخر معارضه كان في مركز "خورخي لويس بورخيس"، في بوينس أيرس، تحت عنوان "أحلامي في غرناطة". ضم المعرض لوحات متنوعة، متفاوتة الأحجام، رسم بعضها بالزيتي وأخرى بالأكريليك وثالثة بالمائي. هذه اللوحات كان قد أنجزها في مدينة غرناطة الإسبانية بين عامي 2005 و2010. وفي يوم الافتتاح رسم أبو راوي، في ورشة فنية حيّة عايشها الجمهور، لوحة بلغ حجمها عشرة أمتار.

التاريخ يتنفس في لوحاته. أخبار الرواة القدماء تتحول إلى إبصار. يُخرج أبو راوي رحلة "ليون الإفريقي"، الحسن بن محمد الوزان، من مجلد ضخم يروي مغامراته في صحراء العرب، لينقلها إلى تجليات بصرية تقارب أدب الرحلات ونصوص الأمكنة.

كما يرحل بنا حوالي 7000 سنة قبل الميلاد، ليستحضر نقوشاً حجرية من جبال أكاكوس في جنوب ليبيا، تطل منها خطوط لحيوانات أسطورية وعربات وطيور. يحاكي أبو راوي ما أبدعه الفنان الليبي البدائي بعفوية، ويستعيد تلك الجماليات المنسية.

في لوحات غرناطة، تأخذنا أجواء الحرب الأهلية الإسبانية ورموزها الفنية والثقافية مثل لوركا، فيخنقنا العتم والسواد والدم، قبل أن نبلغ بصيص الفجر بطريقة سوريالية قريبة من سلفادور دالي الذي منحه الفنان حيزاً واسعاً في أكثر من لوحة، مشكّلاً في محاورة رؤاه الغرائبية تنويعات جديدة، تتفق شكلاً مع دالي، لكنها تختلف معه موضوعاً، فلكل عصر قضاياه، ولكل فنان رؤاه.

خلال متابعتنا لنشاطات الفنان المتواصلة، والتي تغطي مساحات جغرافية شاسعة من مدن العالم، نقف أمام معرضين هامين أقامهما في غرناطة. الأول تناول فيه مأساة مفقودي ثورات الربيع العربي، والثاني اشترك فيه مع تشكيليين إسبان، وجعل موضوعه الأساس "قوارب الموت" التي تقل المهاجرين من دول الجنوب إلى دول الشمال. نال المعرضان اهتمام وإعجاب وعناية الكثير من المتابعين، لتماسهما مع جوانب إنسانية مؤثرة، ولعرضهما قضايا محلية وعربية كلها وجع ودم وحرمان.

سمة لوحات أبو راوي هي نزعتها السردية القادمة من مرجعية أدبية، فكثيراً ما تحتشد بالتفاصيل الصغيرة التي تسرد للعين، وتكاشفها بما تحسه من آلام، فتتمسرح التكوينات والعناصر وتتحرك نابضة بالحياة، لنشعر ونحن نشاهد قارب الموت أنه فعلاً يصارع الأمواج، وأنّ المهاجرين الذين يركبونه يصرخون ويرتلون أدعيتهم الدينية.


المعرض المخصص لـ"قوارب الموت" جاء دعماً لهؤلاء المقهورين الهاربين في قوارب متهالكة، خشبها منخور، حديدها متآكل، نسبة غرقها في البحر تتجاوز 80%. وركابها الفقراء اقترضوا ثمن ركوبهم البحر ودفعوه لنخّاسي البر وعصاباته، كما لو أنهم يدفعون ثمن موتهم.

المعرض بمثابة صرخة احتجاج على سلوك الدول الغربية التي لا يمكن تبرئتها، لا سيما وهي تتخذ إجراءات تفتقر إلى الإنسانية، بحيث تتركهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما يطيح بهم البحر، وإما تقضي عليهم المافيات. كما أنه تعرية للادعاءات الباطلة، للدول والمؤسسات والأفراد، في احترام حقوق الإنسان.

اهتمام الفنان بالجانب الإنساني في رسوماته واضح، بل إنه يتأثر به بعمق، ونرى ذلك من خلال تناوله لمأساة المفقودين في ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، حيث سجل هذه المعاناة المؤلمة التي تضوّر بنارها كثير من العائلات الليبية والمصرية والسورية، وذلك بشكل فني بديع. ولعل تجربة زميله الفنان الليبي محمود الحاسي الذي ما زال ابنه البالغ من العمر 17 سنة مفقوداً، منذ بدايات أحداث شباط/ فبراير في ليبيا 2011 إلى الآن، قد ألهمت أبو راوي ودفعته إلى تخصيص معرض للمفقودين ومجهولي المصير، لعله يواسي المكلومين ويشاركهم معاناتهم، ويساهم في توثيق الذاكرة الوطنية الليبية.

دلالات

المساهمون