ذاكرة الخليج على عجل: لغز الفنون البصرية

ذاكرة الخليج على عجل: لغز الفنون البصرية

29 مارس 2016
(من سلسلة "ثروة/ غولف"، رجاء خالد)
+ الخط -

"كيف يمكن للأشخاص والأماكن أن يتغيروا إلى الدرجة التي يفقدون معها صلتهم بما كانوا عليه، وهل يستطيع الإنسان أن يتكيّف مع الأشياء الجديدة والأماكن الجديدة دون أن يفقد جزءاً من ذاته؟" بهذه المقولة المستلة من خماسية "مدن الملح" للروائي عبد الرحمن منيف يقدّم المنظمون معرض "ذاكرة على عجل" أو باسمه الإنجليزي (In Search of Lost Time)، الذي اختتم مؤخراً في "غاليري بروناي" في لندن.

يغوص المعرض في العلاقة المعقدة بين الصورة والوقت وتبدلاتها فائقة السرعة في الخليج، مقدّماً تساؤلات حول واقع التسلسل الزمني وطبيعة الحدود الإقليمية ومفاهيم الهوية الكامنة في هذه المنطقة.

اختار القائمون على "ذاكرة على عجل" 12 اسماً في مجال الفنون البصرية من التي برزت في منطقة الخليج العربي، حيث نجد: جعفر إصلاح، حسن شريف، رجاء خالد، سامي محمد، صوفية المريّة، عبد الله السعدي، عجلان غارم، كميل زكريا، لانتيان زي، محمد شرف، محمد كاظم، منيرة القديري، استديو غارم/ الرياض.

"العربي الجديد" التقت الفنان عبد القادري، أحد القيمين على المعرض إلى جانب أمل خلف وعبد الناصر غارم، حول هذا المعرض وحول حالة الاهتمام بالفن الخليجي الآن أكثر من أي وقت مضى، يقول القادري: "هناك اهتمام عالمي بالفن العربي عموماً، وقد بدأ منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، وتحديداً الفن الذي يعالج قضايا "الشرق الأوسط"، مع التركيز على القضايا السياسية والاجتماعية والدينية في ظل الأوضاع الحساسة التي تعيشها المنطقة، وسطوة الإعلام الذي بات بحاجة إلى المزيد من تابوهات المجتمع العربي والاسلامي".

بالنسبة للقادري فإن كل هذه الجوانب أدت إلى الرغبة في "اكتشاف المنطقة من جانب فني، وهو توجّه حديث يركز على الاهتمام بالفنون الآتية من دول غير أوروبا وأميركا، كالاهتمام بالفن الصيني والإيراني والهندي". هنا يلفت القادري إلى دور "سوق الفن والتمويل الذي تحظى به هذه الفنون. والحاجة بل وضرورة القول إن هناك ما هو أكثر من النفط في الثقافة الخليجية، إذ تتجه رؤوس الاموال إلى الاهتمام بالفن وتتبنى سياسة بناء المتاحف والغاليريهات، والمعارض الكبرى كآرت دبي إضافة إلى سوق الفن والمزادات العالمية".

يسعى الفنانون المشاركون في "ذاكرة على عجل" إلى إعادة صياغة التفسيرات التقليدية لمصطلح الزمن في منطقة الخليج. تذهب أعمالهم إلى استكشاف تفاصيل لم يقيّض للعقل استيعابها في سباقه المحموم لإثبات كينونته المادية، موظفين مهارات الأرشفة والسفر عبر الوقت والاستكشاف ورواية القصص في تطوير وتجسيد استراتيجيات زمنية باستخدام الفيديو، والتصوير الفوتوغرافي، وفن الأداء والنحت والرسم كوسائط للتعبير. من خلال هذه الأدوات يحاول العمل الفني إحياء مخلّفات الماضي واقتراح تحالفات غير متوقّعة وعابرة لزمن انحنت ذاكرته بتلابيبها أمام جبروت التكنولوجيا، مسقطةً بانحنائها الكثير من الصور والأحداث عن قصد أو غير قصد.

لكن هل هناك فعلاً ما هو مهم في الفن الخليجي أم أنه ظاهرة وستعبر؟ يجيب القادري: "الحركة التشكيلية في الخليج عمرها تقريباً نصف قرن، بدأت في الكويت والبحرين ثم السعودية وتأسّست نخبة من الرواد ممن قدّموا مساهمات بارزة على الصعيد الفني العربي اليوم، وعلى صعيد الفن المعاصر". ويكمل "لا يمكن أن تكون ظاهرة وستعبر، بل أنا متفائل بأن الفن سيصبح جزءاً من النسيج الثقافي خصوصا مع الدعم الكبير من المؤسسات، ولكن بالمقابل ذلك يحتاج إلى مساحة كبيرة من التحرر والوعي البصري الذي لا يمكن أن ينمو إلا في ظل التعليم والتدريب المتواصل".

وفي الحقيقة، فإن النمو الاقتصادي لم يكن بلا تأثير على الجوانب الأخرى من الحياة في بلدان الخليج، فقد أدّى خلال السنوات الستين الماضية إلى تحوّلات هائلة في البيئة الاقتصادية والمادية والاجتماعية والسياسية لمنطقة الخليج. وقد خلقت سرعة التغيير المطّردة هذه خلافات وتوترات بين ثقافة البداوة السائدة وتعاظم عولمة العواصم من جهة، والتقاليد والتكنولوجيا التي باتت ملمحاً رئيساً من ملامح دول الخليج على المقلب الآخر.

هذه المنطقة شهدت أيضاً النمو السكاني الأسرع في العالم، بغالبية عمرية لا تتعدّى سنّ الخامسة والعشرين، وشكّلت أسواق العمل في الخليج ذات الطفرة التنموية المطّردة مرتعاً خصباً لتوظيف المهاجرين لدوافع اقتصادية ومعيشية من عمالة البلدان الجنوبية والدول المجاورة لها.

كان لا بد لهذه القفزة الزمنية أن تُلقي، بما حملته من تطورات وتحوّلات ديموغرافية قياسية، بظلالها على الممارسات الفنية لأجيال متلاحقة من الفنانين، مُحدثةً تأثيراتها في طرق تعاطيهم مع قضايا حضارية بحتة منها مقاومة الاستعمار، والرؤية المثالية حول قومية عربية سرعان ما فشل تحقيقها، والتبدّلات والتحوّلات ما قبل اكتشاف البترول أو ما بعده وصولاً الى المجتمع بشكله الحالي المتضخم والمعاصر.

المعرض هو فرصة يسلّط من خلالها الضوء على النتاج الفني الشاب في المنطقة، من السعودية مثلاً يحضر معرض متبدّل ينظمه "استوديو غارم" من الرياض مقدماً فنانين ناشئين تحت سن الخامسة والعشرين تطرح أعمالهم أسئلة عن الفن والتحوّلات والنقد الاجتماعي.

لكن هل يكون الاهتمام بأشكال الفنون البصرية المعاصرة في الخليج تحديداً، مشهد مغترب عن واقعه؟ سألنا القادري الذي رأى أنه "على المستوي العام نعود بهذ السوال إلى الإشكالية الجوهرية في عالمنا العربي ككل، فنحن شعوب ثقافتها البصرية حديثة نسبياً، ربما الثقافة السمعية أكثر تطوراً وبالطبع الذائقة الأدبية لها المقام الأول، كما أن ما تشهده المنطقة من مد أصولي يجعل الثقافة البصرية والفنون عموماً مغتربة عن الواقع ويحصرها أكثر فأكثر بجماعات نخبوية".

تتأرجح الأعمال في المعرض بين صيغ زمنية للماضي والحاضر والمستقبل وأخرى تتكشّف فيما بين هذه الأزمنة. كذلك يطرح المعرض ويؤسّس لوجهات نظر حول منطقة مجزأة طبقياً وتحاول في الوقت ذاته التمسّك بالسليقة، عن طريق إعادة الانخراط مع تاريخها وطاقاتها الحالية وتطلعاتها نحو المستقبل.

رغم ذلك، يلفت القادري إلى أن الواقع قد يبدو محزناً، ويوضح "حين ترى ضعف الإقبال على المتاحف أو صالات العرض في الخليج حتى في أهم المعارض التي تُقام، ولكني أؤمن وخلال تجربتي التي استمرت عشر سنوات في العمل الفني في الكويت أن العديد من دول الخليج مهيأة لتقبّل الفنون المعاصرة ومواكبة سوق الفن العالمي ولكن بالكثير من الجهد والإصرار. أعود وأركز على أهمية التعليم وأن بناء معاهد وكليات الفنون أهم من بناء المتاحف واقتناء الأعمال العالمية بملايين الدولارات".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استوديو غارم
يبدو عبد الناصر غارم لغزاً آخر في مشهد الفن البصري الخليجي. "الضابط المتقاعد" والفنان السعودي الشاب صاحب الأعمال الأعلى سعراً في منطقة الخليج، وسّع المشهد بتأسيس "استوديو غارم" مع شقيقه الأصغر عجلان، الفنان الإشكالي أيضاً بأعماله التي تجاري أعمال عبد الناصر (الصورة) في استفزازيتها. أما الرقابة الثقيلة الممارَسة على أغلب الفنون فتبدو أقل هيمنة على الفن البصري الذي يستفيد من اغتراب مشهده.



اقرأ أيضاً: عبد القادري: جحيم من ماء أزرق

المساهمون