رفيق مجذوب: وجوهٌ في مرايا قديمة

رفيق مجذوب: وجوهٌ في مرايا قديمة

24 يناير 2015
مقطع من "Rain on me"
+ الخط -

لا يلطّخ الفنان التشكيلي الأردني رفيق مجذوب (1971) الوجه الذي يعود ويكرّر العمل عليه، قدر ما يحوّل اللطخات والخطوط والبقع إلى وجوه تتكرّر لوحة إثر أخرى، من دون أن تتشابه. تنتقل الحيرة من أصابع اليد، التي هي مرآة أخرى وأذكى من العين أحياناً، إلى الخطّ الذي سرعان ما يحدد حركة الانتقال ويؤطرها محوّلاً إياها إلى وجه  - مرآة (عنوان إحدى لوحاته في المعرض "مطر عليّ" (Rain on Me) الذي تستضيفه غاليري Art On 56th في بيروت، ويستمر حتى حتى 31 كانون الثاني/ يناير الجاري).

اللطخ والتكرار الخطيان، مع التبقيع والتكسّر والبتر المفاجئ، هي سمات أساسية لإعادة النظر في الوجه الذي يتحول إلى مرآة ذاتية، كاشفة ومرتجفة. وهذه المرآة ليست نقية ولا شفافة ولا مصقولة، فهي لم تأت من فراغ البراءة السهل ولا كانت مكونة من مادة الأحلام الجميلة؛ ذلك أنها مليئة بالبقع والحفر والندوب، لكنها مع ذلك قريبة وتكاد تكون قادمة من عالم طفولي أليف ومبعثر، خام ومتقن في آن واحد.

عالم يبدو كما لو أنه بُني من أخطاء المصادفات ونزاعات الكبت وشهوة اللعب وقوة الحدس. تُشدّ العاطفة بالخط الذي يظهر أقرب إلى تسييل مغبّش منه إلى تحديد واضح، فليس من مهمة اللوحة تنقية وجوه (رسّامها)، حينما لا يكون هناك نموذج تستمد منه أصلها.

الوجه على هذا النحو لهبٌ وفيّ لسيرة ذاتية شائكة، والخط الذي يجمعها يتكسر ويلتوي في أكثر من جهة، وفي أثناء التكسّر والالتواء يجمع ويلتقط الشعلة قبل أن تنطفئ. الوجه يقرّب البعيد ويضيء الغائر في النفس، يرفعه إلى السطح كما لو كان غريقاً يطفو على وجه مياه مرتعشة.

هكذا، تولد المرآة، مثلها مثل المياه، من التكسّر والجمع والالتقاط والتداخل ومعاودة الضرب مثلما يبزغ وجه قديم يتصافى من مكان بعيد وناءٍ، من خلف ضباب كثيف وطبقات ذاكرة متداخلة. وجوه رفيق مجذوب متموجة وطافية، مخدوشة وحانية، وخلفها نبع قسوة غير مرئي. إننا أمام جرح وقد تحول إلى أثر، وأمام غروب وقد تخثر في نظرة. لا ينقل وجهٌ كهذا الوجه ما يراه من خارجه، ولا يعكس الضوء وهو يلمع أمام عينيه، فهو هنا أقرب إلى بوح ذاتي طويل منه إلى فلاش لصورة شخصية آنية وقصيرة.

من هنا، تبدو تعابير الوجوه، على اختزالها وقوتها وتقاربها، نداءً كتيماً، وهادئاً من كثرة التجوال الذي يجعلها متعبة ودافئة. التعرّج والالتواء داخل اللوحة الواحدة، مثله مثل السير في أكثر من شارع، يحملان الوجه الذي لا ينجو مما مرّ به. البقع شاهدة على ذكريات، والالتواء علامة على التوتر، والكدمات أهم مما سبّبها وتناسى أثرها.

لذلك يبدو التكرار استعادة مريرة، وأسلوب رؤية تضاعف من طبقات الوجه الذي يحمل أثر التجوال. التكرار أيضاً طريقة لتثبيت التأمل على ملمح بسيط، أو عبارة تظل تتكرر وتتوالى على خلفية إحدى اللوحات (try to be me). مع ذلك، لا يظهر ثقل على هذه الوجوه، فهي تكاد تهطل وتتذاوب قبل أن تنتهي إلى شكل صلب وثابت.

إنها تتشكل أثناء خطّها ورسمها، تكتمل دون أن تدّعي كمالاً، ولذلك تبدو قرينة على ما هي عليه دون ترميز جاهز أو إحالة خارجية أو إسقاط رمزي. إنها مكونة من بقع غائرة ملموسة وكدمات غزيرة وتطاول نحيل وصعب. هي جريحة من دون صراخ، وعرة من دون ثقل، رحبة مثل متاهة، وعارية مثل المياه.

المساهمون