نوري الجرّاح.. صوت الملهاة الدمشقية

نوري الجرّاح.. صوت الملهاة الدمشقية

12 مارس 2020
(نوري الجرّاح)
+ الخط -

"أَعودُ مِنْ رِحْلَتي على طَرِيقٍ أَخَذَتْني، الطَّريقُ الأَشْواكُ/ لكنَّني مُنْتَصِرٌ وفي راحَتي حَبَّةُ الرَّمْلِ تَتَلأْلأُ.. صَدْريَ فَراغٌ خافِقٌ؛ أَبَدٌ شَجِيٌّ ماهِرٌ. الأَحْمَقُ يَتَلَقَّفُ العِظَةَ/ وأَنا أَعُودُ مِنْ مَسائيَ إلى خَيْطِ الشَّمْسِ في نافِذَتي/ وصَباحٍ تَرَكْتُهُ يَتَقَلَّبُ في سَريرِ ليلةٍ مَضَتْ".

يفتتح نوري الجرّاح (دمشق، 1956) مجموعتَه الشعرية الجديدة "لا حرب في طروادة" (منشورات المتوسّط) باستعارتَين حول الدم والنور، في تصعيدٍ لـ الحرب السورية إلى مستوى طروادة معاصرة يجرى نفيها على لسان الشاعر (في قصيدة "كلمات هوميروس الأخيرة")، بما يُحيل إلى حالة النكران السياسي ومحاولات التماهي مع علامات الجريمة بغرض طمسها.
ميزانان يُرجّحان كفّةً واحدة تُحيل إلى فاتورة الخلاص والحرية المتمثّلة في النور في موازاة الحراك نحو التغيير المتمثّل في الدم.

في المقلب الأول، تعبيرٌ عن صورة "الدم المضطرب" ممتلئًا في يد مجازية: "دَمِيَ‭ ‬المُضْطَرِبُ‭ ‬يَمْلأُ‭ ‬يَدِي/ ليتَني‭ ‬لَمْ‭ ‬أَكُنْ‭ ‬هُنا لا‭ ‬اليَوْمَ/ ولا‭ ‬أَمْسِ".

وفي المقلب الثاني، يحلّ "النور المراهق" الذي يحسب أن تتبصّره الطاقة الثورية بصبغتهااليافعة والشابّة والجديدة بوصفها "مراهقة" طموحة؛ إذ تبلغ مأساتها باعتبار نورها الخاصّ هو "الضائع من سنوات الضوء":

"وهذا‭ ‬النُّورُ‭ ‬المُراهِقُ
ليْتَهُ،‭ ‬وراءَ‭ ‬الكيلومترات،‭ ‬
في‭ ‬
الطَّلْقِ‭ ‬
اللاهِبِ،
لَمْ‭ ‬يَكُنْ‭ ‬إلا‭ ‬الضَّائِعَ‭ ‬مِنْ‭ ‬سَنَواتِ‭ ‬الضَّوْءِ"‭.‬

في فصلها الأول "الملهاة الدمشقية/ لسان الجحيم"، ينازل الجرّاح بمبضع الشاعر "أعمال المسوخ" في صورة تخريبهم للمدينة، وإضرامهم لـ "النار في الأسرّة". ثم يتابع مساءلته لِـ "هشيم الأرض" في القصيدة التالية حتى يقول:

"أَهوي وراءَ صَوْتِي
وأَنهضُ
ولي عينانِ حجريتانِ
إلهيَ
مَنْ شَقَّقَ مَرْمَرَ عَيْنَيَّ وأَعْطاني هذهِ الصُّورة؟"

فيما تأتي القصيدة الثالثة، "الصراط المشتعل"، محمولةً بأسطرة الملهاة عبر تلبُّس المتكلّم لشخصية "أليعازر الدمشقي"؛ حيث يصفه بالهائم في المدينة، وصاحب القدمين المجرّحتين، إلى أن يحيله خارجاً من باب الجنان المحترقة: "أنا أليعازر الدمشقيّ خرجت من باب الفراديس ووجدت الجِنان تحترق".

استدعاءٌ تاريخي لصورة المدينة المعافاة في بؤرة تكثيفها لحضارة مركزية يجتذب بها الشاعر شعوب الأرض، ويروي عنها من على حجر المدينة متجاوزاً صراطه اللهبي، وملهاته الماثلة على شكل ملحمة لا نهائية المعاني:

"أَقِفُ فِي الْمِرْآةِ، وَلَا أَرَى وَجْهِي!
هَلَّا خَرَجْتِ لِي مِنْ غَيْبِ الصّوَرِ،
وَكُنْتِ شَفِيْعَتِي؛
لِيُمْكِنَنَي النُّزُولَ مِنْ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ المُشْتَعِل،
مَاهِراً،
كَمَا يَفْعَلُ الرِّيَاضِيُّ فِي الْأُولِمبْيَادِ الْأَثِينِيِّ،
وَأَجْلِسُ عَلَى حَجَرٍ فِي الْمَدِيْنَةِ،
لِأَرْوِي لِلدَّمَاشِقَةِ، وَهُمْ يَكِيْلُونَ الْحَرِير بِالْأَشْبَارِ خَاطِفِينَ أَبْصَارَ الْجَنَوِيِّين وألْبَابَ الْبَنَادِقَةِ وَقُلُوبَ الْقَبَارِصَةِ وَدَهْشَةَ الْكِريتِيِّينَ وَخَيَالَ الْقُرْطَاجِيِّينَ، وَأَرْوِي لِلتُّركِ وَالْأَلْبَانِ وَالْخَزَرِ وَحَتَّى الصَّقَالِبَةِ الَّذِينَ وَصَلُوا مِنْ أَقَاصِي الشَّمَال، وَرُسُلِ إِلِيْزَابِيثِ الْقَادِمِينَ مِنْ بَحْرِ الظُّلُمَاتِ لِيَعُودُوا إِلَى وِندْسُورْ وَيُضِيْئُوا السَّنَةَ بِفُسْتَانِهَا الدِّمَشْقِيِّ؟".
تستدعي المجموعة أجزاء سيرة تاريخية، ورموزًا وإشارات محمولةً على قوّة الصورة، وغنائية سياقها. ثيمة لأنشودة الجرّاح تَنشُدُ تمرّدها عبر ملحميتها:
"وَفِي الْخُلَاصَةِ،
بَعْدَ الْجَحِيمِ، والْجَحِيمِ، وَالْجَحِيْمِ،
بَعْدَ الرَّمَادِ فِي الْآنِيَةِ،
أَأَنَا أَنَا؛
أَمْ أَنَّنِي
وَهْمُ صَاحِبي الَّذِي لَمْ يَصِلْ،
وَظِلِّيَ الَّذِي أَهْدَيْتُ لِلطَّريْقِ؟
وَمَا الْفَرْقُ، لَوْ كَانَ يُقَاسُ بِالْأَشْبَارِ، بَيْنَ إِيْثَاكَا، وَرَافِيْنَا، وَدِمَشْقُ الَّتِي تَحْتَرِقْ؟!".

تشغل الحرب الأحياء بعدما لوّح الموتى وتركوا لهم مزاولة ألم الفقدان والاغتراب؛ إذ يشتغل نوري الجرّاح على ترميز الكارثة السورية في سياق إنسانوي وتراجيدي وتاريخي مجرّد يُعلي من شأنِ التفكّر والتأمّل في ثنائيات الحياة المؤسّسة على المخيّلة والموت المحدّد بالمباشرة والنفي والمحو في صورةٍ مُعاكسةٍ للموت الإنشائيّ بوصفه ترفاً خارجياً زائداً:

"أَهَذَا هُوَ جَبَلُ الْفَلَّاحِ الَّذِي شَجَّ رَأْسَ الرَّاعِي،
والَّذِي مِنْ صُلْبِهِ تَحَدَّرَ التَّاجِرُ،
وَالصَّيْرَفِيُّ،
واللَّاعِبُ بِالسَّيْفِ؟

يَا لَهُ مِنْ جَبَلٍ مُوْحِشٍ
لَا يُقِيمُ فِيْهِ طَائِرٌ،
وَلَا تَنْبُتُ فِي عَطَشِهِ سِوَى الشَّقَائِقُ
لَاهِبَةً،
وَلَا تُرْسِلُ مَغَاوِرُهُ الْمُرَوَّعَةُ بِالْأَمْوَاهِ
بَعْدَ
الْأَمْوَاهِ،
سِوَى حُطَامِ التَّأَوُّهَات.

عَلَى قِمَمِهِ يَلْهُوَ الْغُبَارُ،
وَالرِّيْحُ تَعْبَثُ بِالْحُطَامْ".

إنّ ما يمكن قوله في الحرب، عن الحرب، بحاجةٍ إلى هدأةٍ لاحقة على لحظات سابقة. لكنها حرب طويلة استقطعت عقارب وقتها لحظاتها الشعرية في ساعةٍ مرسومةٍ على يد الشاعر في إطار صورة حصانه الطريد والعدّاء والجريح، إذ لا يُحضر له دمشق إلّا عبر غياب الكلمة:
"يَا رَائِحِينَ إِلَى دِمَشْقْ، هَاتُوا دِمَشْقَ بِلَمْسَةِ الِمْندِيْلْ،
هَاتُوا القَمَرْ بِالْمِكْحَلَةْ، والشَّمْسْ بِالقِنْدِيلْ".


* شاعر من فلسطين

دلالات

المساهمون