منصورة عز الدين: الكاتبة في صباحاتها الضبابية

منصورة عز الدين: الكاتبة في صباحاتها الضبابية

28 مايو 2016
تصوير: رندة شعث
+ الخط -

يعرف قارئ أعمال الروائية منصورة عز الدين، أن سردها منهمك دائماً بالبعد النفسي لشخصياتها، وأنها محترفة في مزج الواقع بالخيال، وفي استخدام أدوات تمكّنها من الغرائبية في النص. تلك السمات لأدب الكاتبة المصرية تجعل ذهن القارئ متيقظاً من اللحظات الأولى في أعمالها، وكأنها تحاول اختراع عالم، وليس أن تعكس واقعاً ما محدداً بزمان ومكان معلومين.

في حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول عز الدين إنها لا تكترث كثيراً بالتصنيفات والقوالب الأدبية، بل يروقها التداخل في ما بينها، وتتذكر أن التحوّل من القصة إلى الرواية لم يكن قصدياً ولم تخطط له، لكن تجربة الكتابة الروائية كانت أكثر تركيباً وأكثر قدرة على استيعاب عوالم أوسع وتنفيذ بنى سردية أكثر تعقيداً.

تذكر صاحبة "متاهة مريم"، أنه حين لاحت لها شخصية مريم وخايلتها، سارت خلفها، حتى بدأت تتكشف لها شخصيات أخرى، وتواريخ وسير لهذه الشخصيات، وعالم متكامل لا يمكن تقديمه إلا في صيغة رواية. وعن طريقتها أو أسلوبها في إعداد العمل وخلق وبناء الشخصيات، توضح صاحبة "ضوء مهتز"، أنه لا قواعد نهائية أو جاهزة؛ يتحدّد كل شيء وفق فهم الكاتب لطبيعة ما يكتبه من دون قواعد جامدة.

وتكمل عز الدين قائلة إنها في كتابة "متاهة مريم" و"وراء الفردوس" كتبت ملاحظات كثيرة تخصّ كل شخصية، وكان هناك تركيز على البعد النفسي للشخصيات وحفر في نفسياتها، لكن وأثناء الإعداد لرواية "جبل الزمرد"، لاحظت أن التركيز على الجانب النفسي سيشوّش على طبيعة الرواية وعالمها، وبالتالي تعمّدت عدم التركيز عليه دون أن يعني هذا اهتماماً أقل برسم شخصيات العمل.

الكتابة كعمل تحتاج إلى مشقة، كما تصفها عز الدين، وتعتبر أنها بارعة في إعداد خطط مسبقة للكتابة تساعدها في الإقلاع فيه، رغم أنها لاحقاً تتجاهل هذه الخطط وتعيد الكتابة أكثر من مرة، إلى الحد الذي قد تختلف المسودات المتتالية تماماً مع المخطوطة الأولى، وهذه بدورها تختلف تماماً عن المخطوطة النهائية، لكن الأساس أن هناك دائماً خطوطاً عامة مرشدة لها في مسار الحكاية.

تعتبر صاحبة "وراء الفردوس"، أن إغواء الكتابة الأكبر يكمن في الاكتشاف والمفاجأة، تقول "لو عرفت ما أنا مُقدمة عليه لما كتبت"، ومثلما كانت تسير إلى مدرستها في الصباحات الباردة الضبابية، لا تكاد ترى الطريق، ترى أن بدايات الروايات الجديدة تبدأ هكذا عادةً بمشهد غامض يخايلها أو بشخصية أو حتى بعبارة تسير خلفها. لتكتب بإحساس من يسير محاطاً بضباب كثيف، "يعرف أن الأشياء موجودة حوله؛ ثمة طريق وأشجار وربما جبل وبشر، لكن الضباب يمنعه من رؤيتهم، ووحده السير (أي مواصلة الكتابة) كفيل بأن يظهرهم إلى حيّز العلن".

قضت عز الدين (1976)، طفولتها وصباها في ريف دلتا النيل، حيث لا انفصال بين الغرائبي والواقعي. تتذكّر تلك الفترة وذاك المكان، حين كانت جنيات النيل والأشباح وأشد الأمور غرائبية مجرد تفاصيل حياة يومية عند الكثيرين، وتظن أن هذه الأجواء قد تقف خلف الشكل الغرائبي في كتاباتها. تقول عز الدين "ترى عيناي الواقع على هذا النحو، أبسط تفصيلة واقعية تحولها مخيلتي في الحال إلى سيناريو كابوسي مفترض. كان هذا مرهقاً بل مخيفاً في طفولتي".

في روايتها "جبل الزمرد"، تشتبك عز الدين مع حكايات "ألف ليلة وليلة" وكأن هناك زمنين متوازيين، الزمن الواقعي والزمن الفانتازي، وعن كيفية إيجاد تضافر واتزان بين العالمين، تقول إن الروايات المكتوبة على شكل خيطين سرديين متوازيين، قد يحدث أن يكون أحد الخيطين أكثر رشاقة وجذباً للقارئ من الآخر، وهذا ما كنت واعية له أثناء الكتابة، وحاولت تجنبه قدر الإمكان، عن طريق إعادة الكتابة وحذف شخصيات، أدى وجودها إلى طغيان الجانب الواقعي على الغرائبي، حتى يكتشف القارئ في النهاية، أن الخيطين السرديين المتباعدين ظاهرياً يتضافران معاً ويصبّان في خط سردي واحد.

تتحدّث عز الدين عن طريقة الموازنة بين ما يلح على عقلها الباطن ككاتبة، وبين ما ترغب هي في تنفيذه في مشروعها الكتابي، وترى أن الكتابة تنطوي دوماً على شيء باطني، والروايات الجيدة يجب أن تتجاوز وعي كتّابها ومقاصدهم، إذ اللغة تتسم بالمكر، ولها لاوعيها الخاص، الذي قد يُفاجئ كاتبها نفسه. وتعتقد أن رغبة الكاتب في السيطرة التامة على مجريات ومقاصد ما يكتبه تنتج في الغالب كتابة مسطحة غير مفتوحة على تأويلات متعددة أو كتابة مثقلة بالصنعة والتكلّف.

تعتقد عز الدين أن الموازنة بين الأمرين، تتحقّق عبر الإنصات لمنطق العمل وشخصياته، وعدم فرض شيء معيّن لمجرد أن الكاتب يروق له هذا. وتتذكر عز الدين نصيحة وليم فوكنر للكُتَّاب حين قال "في الكتابة عليك أن تقتل أحباءك"، أي أن على الكاتب، خلال مرحلة التحرير والتنقيح، التخلص من كل ما أضافه لمجرد رغبته الشخصية، أو لمجرد أن هذه الإضافة عزيزة عليه.

تستعيد عز الدين التحوّلات الشخصية في حياتها والتي أثّرت بشكل كبير على كتاباتها، وتذكر أن رحيل والدها وهي صغيرة، كان أهم أسباب اتجاهها للكتابة، لأنها عبرها وعبر أحلام اليقظة، كانت تحاول رسم سيناريوهات تعيده إلى الحياة. تضيف عز الدين أن مرض والدتها أيضاً، كان دافعها الأول لإكمال "متاهة مريم" بعد ركن المسوّدة لأكثر من عام ونصف. تستعيد الكاتبة مشاوير رافقت فيها والدتها إلى المستشفى، بينما كانت تحثّها على العودة إلى الكتابة، حتى عادت مجدداً لأجواء الرواية المهجورة.

الكتابة بالنسبة لعزّ الدين هي أرض الاغتراب، هنا تذكر كيف انفصلت مبكراً عن عائلتها، بمعنى أنها قررت أن تعيش مستقلة عنهم، عن ذلك تقول "كنتُ دائماً أبحث عن فرديتي وأشعر بعدم التواؤم مع الواقع المحيط، وأتذكر أن أمي كانت تقول إنني أعيش داخل ذاتي". وتتابع "بعد وفاتها عرفت من صديقة مقربة منها أنها كانت تصفني بالغريبة، وأنها قصدت الغُربة لا الغرابة، بمعنى أنها كانت مدركة لإحساسي الدائم بالغربة عمّا وعمّن حولي".

أما عن الأفكار التي تخص العائلة والهوية، والتي تسيطر على أغلب أعمالها، فتبيّن عز الدين أن كتابتها – بشكل أو بآخر – وليدة ما عايشته، حتى لو خضعت لكثير من التخييل والتركيب واللعب الفني، فثمة دوماً أصل واقعي ما، من ذلك استقلالها المبكر عن عائلتها، وكيف أثّر على شخصيتها وبالتالي على كتاباتها، وبالنسبة إلى الأفكار التي قد تتكرّر، بأشكال مختلفة، من عمل لآخر، تقول "أظن أننا لا ندرك ما يشغلنا حقاً إلّا بعد الكتابة، كما أن هناك أسئلة تظل بلا إجابات واضحة".

المساهمون