ارتيابات في المدينة البيضاء

ارتيابات في المدينة البيضاء

05 سبتمبر 2016
(سعاد دويبي، "دينار، حليب، سيجار"، الجزائر)
+ الخط -

ليس النزول بالفعل الثقافي والفنّي إلى الفضاءات العامّة أمراً سهلاً في الجزائر. ثمّة أسباب عدّة لذلك؛ أبرزها البيروقراطية ونظرة الريبة التي تعترض كثيراً من المحاولات. ففي بداية العام الحالي، اعتقلت الشرطة فنّاناً هاوياً، اسمه محمّد دحّة (1986)، بسبب عزفه في ساحة "أودان"، وسط الجزائر العاصمة، قبل أن يُطلَق سراحُه، وتمنحه السلطات المحلّية رخصةً تسمح له بالعزف والغناء في الشارع.

أثارت القصّة اهتماماً كبيراً لدى الرأي العام، حتّى أن فنّانين ومواطنين التقوا في المكان نفسه، وغنّوا وعزفوا، تعبيراً عن تضامنهم مع دحّة، ورغبتهم في استرجاع الشارع المختَطف. وقد أعادت القضية إلى الواجهة مسألة الفضاء العام في الجزائر.

الأمر ذاتُه تعرّض إليه، قبل عام من الآن، الفنان الفوتوغرافي، يوسف كرّاش (1988)، المعروف بصوره التي تنقل مشاهد من الحياة اليومية في العاصمة ومدن جزائرية أخرى بالأبيض والأسود. أقام كرّاش معرضاً، في الشارع نفسه، ضمّ أكثر من مئتي صورة، وقد تزامن ذلك مع "عيد الاستقلال" (الخامس من تمّوز/ يوليو). ويبدو أن هناك من اجتهد بأن المعرض يحملُ "رسائل معاديةً" للذكرى، في بلد لم يعتد كثيراً على المبادرات الثقافية المستقلّة في الفضاءات المفتوحة.

كان ذلك أقصر معرض فوتوغرافي مفتوح تحتضنه المدينة، إذ لم يستمر سوى ساعات قليلة؛ فمع تعليق آخر صورتين، فوجئ كرّاش ومن معه برجال الشرطة وهم يطلبون منهم نزع الصور عن الجدران. أحدهم قال إنه رأى صوراً شبيهةً "لكنها أجمل" في معرض أُقيم في وقت سابق في "رياض الفتح". المفارقة هي أن الشرطي كان يتحدّث عن الصور نفسها؛ فقد أعجبته في قاعة مغلقة، وأثارت حفيظته وهي معروضة في الهواء الطلق.

مع ذلك، بات لافتاً أن شوارع المدينة باتت تشهد، بين الفينة والأخرى، بعض الفعاليات الثقافية التي كانت إقامتُها حكراً على الفضاءات المغلقة، وهو توجّهٌ يرى كثيرون أنه يعكس رغبة فنّانين شباب في كسر الطوق المفروض عليهم، وتقديم فنّهم وأفكارهم للجمهور مباشرةً.

هكذا، انتشرت الرسوم واللوحات التشكيلية في عددٍ من الأحياء الشعبية؛ مثل باب الواد وبلكور، واكتست سلالم المدينة ألواناً زاهية أضفت لمسةً جديدةً على "دزاير" (اسم العاصمة بالعامية الجزائرية)، التي كانت تُلقَّب في وقت مضى بـ "المدينة البيضاء".

لكن أكثر ما لفت انتباه الجزائريين مؤخراً، هو تلك المرأة التي كانت تتجوّل بين شوارع المدينة بأزياء مختلفة. أثارت صورها، التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي كثيراً من التعليقات؛ بين معجب ومستاء؛ بعضُهم أبدى إعجابه بجرأتها، وبعضهم شكك في سلامتها العقلية، وآخرون رأوا أنها تبحث عن الشهرة والأضواء، بينما كان الأمر يتعلّق بعرض أدائي اتّخذ أسلوباً فنّياً غير معهودٍ في المدينة.

صاحبة العرض الأدائي هي الفنّانة التشكيلية سعاد دويبي (1982)، وعنوان عرضها "امرأة"، وهو تجسيد لنصّ كتبته في 2014 بعنوان "اليوم الأخير قبل الانتحار". أمّا مضمونه فيقوم على فكرة بسيطة: تجوّلت الفنّانة في عددٍ من شوارع العاصمة وأزقّتها، وكتبت عبارة "امرأة" على الأرضيات والجدران، وعلى أوراق وزّعتها على المارّة.

ومع أن كثيرين رأوا أن العرض يندرج ضمن "التيار النسوي"، إلّا أن صاحبته أصرّت، في تصريحات لوسائل إعلامية جزائرية، على أنه ليس موجّهاً إلى الرجل أو ضدّه، بل إلى المرأة نفسها، و"التي لديها مشكلة كبيرة مع المرأة، إذ لا تفهمها ولا تحاورها، وتفضّل البقاء داخل الصورة النمطية". أمّا عن اختيارها الشارع مكاناً للعرض، فتقول خرّيجة "المدرسة العليا للفنون الجميلة" في الجزائر العاصمة إنه يعكس رغبةً في الانعتاق من الأروقة والقاعات المغلقة، التي يكون فيها الفنّان منتجاً ومتلقّياً في الوقت نفسه لأن الجزائري أصلاً، معتبرةً أنه يمثّل طريقة لتقريب الفن من الناس.

قبل ذلك، أطلقت دويبي، في وقت سابق من هذا العام، مبادرةً لإحياء "الحايك" (لباس تقليدي يغطّي وجه المرأة بشكل جزئي) الذي أخذ في الاندثار منذ بداية التسعينيات؛ حيثُ جابت رفقة ثلاثين امرأةً شوارع العاصمة بدءاً من "حي القصبة" العريق وصولاً إلى ساحة أودان، وهنّ مرتديات هذا الزي. غير أن العرض ووجه بانتقاد شديد، سواءً من تيارات متشددة دينياً رأت فيه "سفوراً" أو من الشخصيات والجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة التي تنتقد أشكال الحجاب.

وفي بداية آب/ أغسطس الجاري، قدّمت دويبي عرضاً آخر في الشارع بعنوان "دينار، حليب، سيجار"، حيثُ جابت الشوارع بزي خاصّ وهي تحمل سيجاراً وترتدي لباساً كوبياً. وقد تزامن ذلك مع معرض احتضنه "متحف الباردو" في العاصمة بعنوان "مدار السرطان" شاركت فيه إلى جانب فنّانين تشكيليين من الجزائر وكوبا رصدت أعمالهم نقاط التشابه بين البلدين. وعلى عكس المعرض الذي أبرز التقاطع الكوبي الجزائري من خلال أعمال فنية، فضّلت الفنّانة تجسيده في الشارع.

بينما تستعدّ دويبي لتقديم عرضين جديدين في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، يحمل الأول عنوان "رسائل مجهولة"، والثاني "نقّي عقلك"، تبدو المؤسّسة الرسمية وقد انتبهت إلى "فن الشارع". هكذا، أدرجت عدداً من الفعاليات التي تُقام خلال هذه الفترة، في ما يبدو أنه بديل للقاعات التي لا يزورها أحد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اكتشاف الشارع
إلى وقت قريب، لم يكن "فن الشارع" وارداً في أجندة المؤسّسة الرسمية. لكنها التفتت إليه مؤخّراً، حيث تحتضن الجزائر العاصمة تظاهرتين في هذا الإطار: الأولى، "متحف في الشارع" التي اختتمت قبل أيام، و"مهرجان فن الشارع" الذي يُقام أيضاً في العاصمة بين 16 و25 أيلول/ سبتمبر الجاري تحت شعار "العاصمة بالألوان". أمّا السؤال، هل هو إدراك متأخّر لأهمية الفضاء العام، أم هي محاولة لاحتوائه؟



دلالات

المساهمون