تسوية أوضاع

تسوية أوضاع

20 سبتمبر 2019
(كولاج لـ جمال فوكس)
+ الخط -

السيدة الراقدة على الأرض في الغرفة المجاورة، هي صاحبة المصنع الذي أعمل فيه منذ سنتين. لا أستطيع أن أصفها لكم في هذه اللحظة، لأنني أخشى أن أنقل لكم صورة مشوّهة عن شخصيتها: الموت يُغيّر من الملامح المعهودة، وبرودته المضجرة تسلب العقل، تبلبل المشاعر وتطفئ أكثر الأحاسيس توقّداً.

لوهلة، بدا لي وكأنّ رحلتي أصبحت معكوسة، أي من الموت إلى الحياة، فمنذ أن وصلت إلى جزيرة لامبيدوزا، وقمت في ما بعد بتلك الرحلة الطويلة والشاقة نحو الشمال الإيطالي، ما زال جلدي ينضح بماء البحر. هل يعقل هذا؟ كنت قد سألتها.

"يا صغيري (هي في العقد الخامس من العمر)، ليست كل الأسئلة بحاجة إلى إجابة. أنت كنت لاجئاً لا تعرف أي طريق تسلك، ضائع في طرقات هذه المدينة، وأنا وهبتك الفرصة لتعي الحياة. منذ سنتين وأنت تضع رأسك على صدري وتحلم".

ثماني ساعات في المصنع وساعات إضافية في المنزل، كان لا بد لعربة المتعة أن تتوقف في محطة ما، في مكان ما. وفي أثناء ذلك، كنت أتساءل كم من الوقت كان يفصلنا عن لحظة الوداع، في أن نقول كلمتنا ونرحل، كعاشقين غريبين، كعامل وربّة عمل؟ تمنّيت لو أكلّمها ثانية وأقول لها كل الأشياء التي تعتمل في صدري قبل تلك اللحظة الرهيبة. إن لم يكن ذلك حباً ولا كراهية، إذن أخبريني ما هو، ولماذا لا أستطيع أن أكون سعيداً مثل الآخرين؟

"يا صغيري، ماذا كنت تعرف عن المتعة قبل أن تتذوق جسدي؟ وماذا كنت تعرف عن النشوة قبل أن أفجّر في أحشائك ذلك الصراخ المكتوم؟ هل تذكر؟ كنت قد بكيت أيضاً! انهمرت دموعك مثل طفل فقد لعبته المفضّلة، رغم أنك بعد شهر واحد فقط، بدأت تعاملني كعاهرة. أخبرتني بأنك اكتشفت رجولتك، وطلبت مني أن أعاملك كرجل، ومع ذلك، ما زلت تضع رأسك في حضني لأُداعب شعرك إلى أن تغفو".

كانت الشرطة على علم بكل شيء. تدبيرٌ كانوا قد اتخذوه منذ وصول الدفعات الأولى من اللاجئين عبر الحدود البرّية وعبر البحر، حتى أنهم، في بعض الحالات، كانوا يراهنون على الجريمة قبل وقوعها.

"الأغبياء فقط يمكنهم أن يُصدّقوا أن ربّة عمل يمكن أن تقع في غرام لاجئ بائس! كيف حدث ذلك، هيّا أخبرنا... ".

"إذن، الجريمة لا تعنيكم بشيء؟".

"كيف لا، ولكن قبل ذلك، نريد أن نعرف كل شيء عن علاقتكما".

"كفى، لقد رويت لكم كل شيء، لا أطيق العودة بذاكرتي إلى الماضي، لأن ذلك يسبّب لي صداعا شديدا في رأسي".

ضحك المفتش وأشعل سيجارة أخرى.

كنت أرتعش من البرد، التفتّ نحوها ولمستها برؤوس أصابعي. كان دمها لا يزال فاتراً، وجلدها الشفاف يلمع تحت الضوء الخافت، كما في تلك الليلة المقمرة، فوق العشب الندي، بين أشجار الليمون. كان المنظر مزيّفاً والكلمات أيضاً:

"أحبك"، تمتمت عشرات المرات، "أعبدك"، شهقت مئات المرات، "مهر الصحراء أنت"، بقيت تلتوي حتى الصباح، "ماريو ... ماريو ...".

"إذن، كنت تفكرين في شخص آخر بينما تمارسين الحب معي؟!".

"كنت أفكر بك"، أجابت من الحمام بينما تنشّف شعرها بالسيشوار، "أفكر بك فقط، ولكن هذا لا يعني أنني لا أفكر به أيضاً. تبّاً، لقد مضى قبل أوانه. هل تعرف؟ أنت تشبهه كثيراً!".

"أخبريني الحقيقة: أنا أم هو؟".

"يا صغيري، لا أحد يقول الحقيقة. حتى أنت تجهل حقيقة وجودك هنا. أنت تلبّي رغباتي لأنك تخشى من أن أطردك من العمل، ولكن هذا ليس سوى الجانب الظاهري من الحقيقة التي تبحث عنها".

كنتُ قد تعبت من مماطلتها، لذلك قرّرت أن أسترجع جسدي. كان يوماً شتوياً عاصفاً، والفيلا التي تبعث النور من غرفة النوم فقط، كانت تتراءى مثل وحش ذي عين واحدة وهو ينفث بخاراً كثيفاً من خياشيمه المدفونة في الأرض. فتحت الباب وصعدت إلى الطابق العلوي. لم أكن أرى شيئاً ما عدا الدم. كان دمها يسيل من الجدران، من السقف، من الثلاجة، من التلفاز، وحتى من النباتات التي تزيّن أرجاء الصالون الواسع.

"أين كنتَ؟ ألا تعرف أن موعد العشاء هو في الساعة الثامنة والنصف؟”، وبّختني وهي تحدّق في الساعة الجدارية التي كانت تشير إلى الثالثة صباحاً.

لم أجبها. اقتربت من السرير وجلست بقربها. احتضنت شعري المبلل بماء المطر وشدّتني إلى صدرها. خدعتني مرة أخرى برائحتها الأنثوية القوية. لم أتراجع حتى أمام رائحة الخمر القوية التي كانت تفوح من فمها. كنت أرغبها أكثر من أي وقت مضى.

"إذن لماذا قتلتها؟".

سألني المفتش بتهكّم بعد أن أشعل السيجارة الأخيرة ورمى بالعلبة الفارغة في سلة المهملات. في تلك اللحظة، التمع بريق خافت خلف النافذة التي تطلّ على الشارع. كان ثمة من أشعل النار في علب القمامة كما كنت أفعل أنا في الليالي الباردة. تكهّنت ذلك من الوهج المتراقص على الجدران والشذرات التي كانت تتطاير في العتمة.

سمح لي المفتش، بعد إلحاحي، بمراقبة المشهد عبر زجاج النافذة. كانوا ثلاثة، وكنت أقضي الليل مثلهم بصحبة متسكعين ومهاجرين عاطلين عن العمل. كنّا نتكلم ونتناقش حتى مطلع الفجر. في أحد الأيام، توقفت سيارة فاخرة بقربنا. كانت هي وراء المقوَد، ورأسها الصغير يكاد لا يظهر من بين الياقة الواسعة لمعطف الفرو. قالت أنها تبحث عن شخص للاعتناء بحديقتها، ثم طلبت أن نقترب منها الواحد تلو الآخر. في النهاية، وقع اختيارها عليّ، بعد أن كشفت لها عن ساعديّ القويين وصدري البارز.

كنت قذراً، وجسمي يفوح برائحة الأرصفة وماء الشتاء النتن. أدخلتني حماماً واسعاً يحتوي على مغطس كبير، كانت قد دلقت فيه كمية كبيرة من رغوة الصابون وزجاجة عطر بحالها. تركتني في المغطس لمدة من الوقت إلى أن تفسّخ قشر الوسخ اليابس وتأكدت من أن جلدي استعاد لونه الطبيعي. بعد ذلك، ألبستني بيجاما نظيفة وقادتني إلى غرفة النوم.

في اليوم التالي، أهدتني بذلة عمل زرقاء وحذاء ثقيلاً، ثم رافقتني إلى شعبة الأجانب ورتّبت إقامتي في غضون أيام معدودة.

"أنت الآن تملك إقامة وعملا، أليس هذا ما كنت تحلم به؟"، قالت بلهجة أم تدلّل طفلها، "بعد الآن، ستنام على سرير نظيف، تأكل ثلاث مرات في اليوم ولن تنقصك النقود".

ساد الصمت في الحجرة. استشار المفتش معاونيه على حدة، ثم قال موجّهاً الحديث إليّ وهو ينفخ أوداجه:

"اصغ إليّ جيداً. نحن أيضاً سنعاملك بنفس الطريقة، أي أنك ستنام على سرير نظيف، تأكل ثلاث وجبات في اليوم وتحصل على راتب ملائم لو أنك قررت أن تتعاون معنا. ما رأيك؟".

استغربت كيف أنهم تعلموا هذه الخدعة في مدة وجيزة من وجودنا بينهم، وبدا لي وكأنني في الفرع 115 أمام المساعد أول أبو رامي قبل أن أوقّع على اعترافات لم أدل بها.

"كيف؟"، سألت.

"لا شيء. ستخبرنا عن عمليتكم المقبلة، عن مخابئ الأسلحة وأسماء الأشخاص الذين ينتمون إلى هذا التنظيم، وبالمقابل سنرتب موضوع هذ الجريمة مع المدعي العام. كما ترى، المسألة بسيطة جداً، مجرد تسوية أوضاع ليس إلّا!".


* كاتب سوري مقيم في ميلانو

المساهمون