جوزيبه بينونه.. نحّات الأثر

جوزيبه بينونه.. نحّات الأثر

07 ديسمبر 2014
"نفَس الأوراق"، 1979
+ الخط -
لم تكن دوافع الفنان الإيطالي جوزيبه بينونه (1946)، في عمله "ستواصل نموها إلا في هذه النقطة"، المنجز بين عامي 1968 و1985، تتجه نحو إنتاج صورة جمالية جديدة تعتمد على الجمع بين عنصرين مختلفين فحسب، بل نحو اكتشاف العلاقة الندية والغامضة بينه وبين الطبيعة. يدٌ برونزية تقبض على ساق شجرة، مع مرور الزمن سيتغير شكلها، في مكان الالتقاء، لتنتفخ محاولةً احتواء العنصر الجديد. ذلك هو الأثر الذي سجله الفنان في الطبيعة.

العلاقة التفاعلية مع الطبيعة، الآثار التي تتركها علينا ونتركها عليها، اعتماد حواس الشم والسمع في عملية استقبال العمل الفني؛ إنها الخطوط الأساسية التي ترسم تجربة الفنان الإيطالي الذي عُرضت أعماله أخيراً في "مركز بيروت للمعارض". وقد ضم المعرض مجموعة من أعمال الفيديو والرسم والنحت والتجهيز، إضافة إلى وثائق تشرح المسار الفني لبينونه وتعرّف المشاهد بـ"الفن الفقير" (Arte Povera).

تأسس "الفن الفقير" عام 1976، على يد المنظّر والناقد الفني الإيطالي جيرمانو شيلانت. كان يبشر من خلال هذه الحركة، التي ضمّت مجموعة من الفنانين من ضمنهم جوزيبه بينونه، بنوع من الفن الجديد والملتزم يواجه السياسات التقليدية لصالات العرض ويعيد للحركة الفنية في إيطاليا حيويتها، متأثراً بالحراك السياسي والثقافي الذي شهدته أوروبا بشكل عام نهاية الستينيات.

الأساس الفكري لهذه الحركة يقوم على إنتاج أعمال فنية تحمل قيمة لحظية، في أغلب الأحيان، وتستمد أدواتها الأساسية من العناصر الطبيعية. وهذا ما يجعلها تتقاطع بشكل أو بآخر مع "فن الأرض" (Land Art) الذي ظهر أيضاً نهاية الستينيات في أميركا.

يعتمد "الفن الفقير"، بشكل عام، على الإدراك الحسي وتنشيط الحواس الأخرى، إلى جانب البصر، في عملية التلقي. لكن هذا البعد لم يمنع بينونه من المحافظة على تقاليد النحت في أعماله. هذا ما يشير إليه عنوان المعرض، "النَفَس نحت". فالنَفَس، وإن كنا لا نراه، له حضوره وحجمه، يسعى الفنان بواسطة الفن أن يجعل آثاره مرئية بالنسبة إلينا، كما في مجموعة "أنفاس" (1975) التي تمثّل صوراً ضوئية، بالأبيض والأسود، لأشكال غيوم تطوف في الغابات، مقتربةً من الأرض، يمنح تجميدها في الصورة الفوتوغرافية حجماً مادياً.

وفي الأداء "نَفَس الأوراق" (1979)، نشاهد أثر جسد بينونه الممدَّد والمنطبع على كومة من أوراق الآس، كما نشاهد آثار النَفَس التي خلّفها أثناء تمدّده.

عمل آخر، في المعرض ذاته، بعنوان "استنساخ موسيقي لبنية الشجرة"، يحاول بينونه من خلاله التأكيد على أهمية حاسة السمع في إدراك العمل الفني. يبدو العمل أقرب إلى التجربة العلمية، إذ اختار الفنان أكثر من أربعة عشر نوعاً من الأشجار ليختبر، بمساعدة خبراء في تقنيات الصوت، الفروقات بينها، وذلك من خلال الضرب والنقر على جذوعها، ليسجّل الصوت المنتشر من قاع الشجرة حتى طرف أغصانها، فيتعرّف إلى الموسيقى المتنوعة التي تنتجها الطبيعة.

إلى جانب السمع، يقترح بينونه حاسة الشم كوسيط مهم في عملية التلقّي، كما في تجهيز "تنفّس الظل". فما أن ندخل القاعة التي يتوسطها العمل، حتى تجذبنا رائحة أوراق الغار المحجوزة ضمن أقفاص معدنية.

قد تبدو أٌفكار بينونه المفاهمية وأعماله المتنوعة الوسائط أشبه بالألغاز للوهلة الأولى، خصوصاً أنها لا تسعى خلف مفهوم "الجميل" التقليدي. وللاقتراب أكثر من عالمه وتفكيك ألغازه، علينا أن نفهم علاقته مع الزمن. يقول بينونه: "الشجرة مادة طيّعة، نستطيع إعادة تشكيلها. العامل الأساسي في هذه العملية هو الزمن. زمن الإنسان يختلف عن زمن الشجرة. إذا أمسكتَ الشجرة بإحكام وضغطتَ عليها بثبات لسنوات، يتغيّر شكلها".

دلالات

المساهمون