"من غويا إلى اليوم": خارطة مختزلة للفن الإسباني

"من غويا إلى اليوم": خارطة مختزلة للفن الإسباني

02 فبراير 2018
("الاعتقال" (1972)، رفائيل كانوغار، من المعرض)
+ الخط -

في "متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر" في الرباط، وإلى غاية بعد غدٍ الأحد الرابع من الشهر الجاري، يتواصل المعرض التشكيلي الإسباني "من غويا إلى اليوم، نظرة على المجموعة المتحفية لبنك إسبانيا" الذي يقام بتعاون بين "المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب" و"بنك إسبانيا" و"الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي".

وتتشكّل المجموعة المعروضة من سبعين قطعة، تضمّ لوحات فنيّة لبورتريهات ملوك وأمراء وشخصيات سياسية، ساهمت جميعها في بناء هذه المؤسسة المالية وتطويرها منذ تأسيسها، لكن الأهمّ هو أن المجموعة المعروضة تُعطي لمحة عامة عن تطوّر الفن التشكيلي في إسبانيا منذ ما يزيد على مائتي سنة، وخصوصاً منها مرحلة الفن الحديث والمعاصر منذ ما بعد الحرب الأهلية وحتى وقتنا الحاضر، إذ يتوزّع مجموع الأعمال المعروضة إلى قسمين أساسيين: قسم يمكن وصفه بالتاريخي، وآخر يمكن أن ننعته بالمعاصر.

من الناحية الكرونولوجية تمتدّ المجموعة التاريخية من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر، بينما تضم المجموعة المعاصرة أعمال الفن الإسباني التي تم إبداعها من النصف الثاني للقرن العشرين وحتى أيامنا هذه، مع إضافة أعمال لفنانين عالميين من خارج إسبانيا، خلال العقود الأخيرة.

وبعيداً عن المجموعة التاريخية التي تضم فضاءين خُصّصا لبورتريهات: كارلوس الثالث بالدروع، وحمالات الأخويات لماريانو سلفادور ماييا، وفيرناندو السابع لبيثينتي لوبيث، وألفونسو الثالث عشر لخوسيه بييغاس، وإيزابيل الثانية لفيدريكو مادراثو، وماركيز تولوسا لميغيل فيرنانديث دوران وآخرين، أو بورتريهات بعض المقرّبين من المؤسسة المالية مثلما هو الأمر بالنسبة لبعض وُلَاتِها، أو شخصيات مثل خوسيه إيشيغاراي الكاتب الإسباني الذي حصل على نوبل الآداب سنة 1904، لكنه بقي على هامش تاريخ الآداب الإسبانية؛ نظراً لعدم الاعتراف بقيمة أدبه، وكلّها أعمال تكشف عن تحكّم كبير في تقنية الرسم والتعامل مع اللون والحركة، فإن أهمية المعرض تكمُن أساساً في الجانب الحديث والمعاصر، حيث يعرضُ في الفضاء المعنون بـ"مادة وحركة" عمل أساسي لأنطوني تابييس، أحد أهم ممثلي التيار المادياتي، الذي يندرج في إطار الفن اللاشكلي أثناء فترة ما بعد الحرب الأهلية.

وفي القاعة ذاتها نجد أعمال فنانين كبار آخرين مثل أنطونيو ساورا، ومانويل ميَّاريس، ومانويل ريفيرا، وخوسيه غيريرو التي من خلال توجّهها التجريبي لامست حدوداً معيّنة للتعبير التجريدي، عبر اللون والحركة والخطوط، عن الإنسان والعالم والأشياء. لكن سحر المادة يجد في تعبيرية شييدا من خلال قطعته المنحوتة "همس الحدود1" (1958)، المعروضة في نفس القاعة، قمة البساطة والعمق في التعبير، من خلال الإمكانيات التي يُتيحها الحديد، في إطار عملية تطويع المادة من أجل التعبير الفني.

وفي فضاء "شعريات الهندسة"، نلج عوالم التيارات الطليعية، هنا يحاور التشكيلُ الهندسةَ المعمارية والرسمَ الصناعي والآلية والعقلانية وخطابَ العلوم، بعيداً عن الأحاسيس الذاتية والعواطف، فنجد أعمال "جماعة 57" التي تكوّنت من خمسة فنانين ربطوا الممارسة الفنية بمفهوم الالتزام وباستكشاف إمكانية استمرار الحركة عبر الفضاء من خلال اللون.

ونجد في هذه القاعة أعمال بابلو بالاثويلو وإيلينا أسينس وسوليداد سيبيا، وجميعهم يستثمرون الإمكانيات التي تتيحها الهندسيات والرسم الصناعي والإنتاج الميكانيكي، عدا عن التوجه المُحتفي بالذات والذاتية في التشكيل الإسباني المعاصر. أما فضاء "واقعيات نقدية" فيؤرخ للحركات المناهضة للفرانكَويّة في الستينيات من القرن الماضي، ويشتمل على جماعة "إستامبا بوبولار" المتأثّرة بفن البوب الأنكلوساكسوني، وجماعة "إيكيبو كرونيكا" التي استعملت العمل الغرافيكي لتحقيق الانتشار مع دعمها للخطاب النقدي، والالتزام السياسي في الفن، وتوظيفها للسخرية والإعلام.

كما تُعرَض في نفس القاعة أعمال جماعة "إيكيبو رياليداد" التي كانت منشغلةً بالصورة المرئية في المجتمع الاستهلاكي، واعتبرت أن وراء التقنَنَة للمجتمع الإسباني يتخفّى وجه متصلّب ومُنوِّمٌ للنظام الفرانكوي، وقد استعملت هذه الجماعة سلسلة أعمال مستوحاة من أحداث ترتبط بالحرب الأهلية الإسبانية مرسومة وملوّنة وفق سلم ألوان يتأرجح بين الأبيض والأسود والرمادي.

وفي نفس الفضاء يُعرض عمل رفائيل كانوغار؛ "الاعتقال"، وفيه يمكن تأمّل حشد من الأشخاص ذوي وجوه بلا ملامح، يقفون وأذرعهم مشبكة خلف ظهورهم، أشخاص بلا هوية يكابدون لحظات الاعتقال، لكن كانوغار نفسه سيعود بعد عودة الديمقراطية لإسبانيا إلى التجريد وإلى الجملة التشكيلية الخالصة.

من الفضاءات الأخرى "مؤثرات خاصة"، وهي تخصُّ جماعة "التشخيص المدريدي الجديد" التي عكست إلى حدٍّ ما العزلة التي عاشتها إسبانيا خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، وقد تشكّلت هذه الجماعة من فنانينَ، العديدُ منهم لم يدرسوا الفنون الجميلة، بل تحلّقوا حول أعمال الفنان لويس غورديُّو، وأنجزوا أعمالاً تشكيلية سردية. في هذا الفضاء تُعرض مع عمل لغورديُّو أعمال كل من كارلوس ألكويا وشيما كوبو ومانولو كيخيدو، كما نجد أعمالا أخرى ترتبط بالفن التشكيلي في فترة الثمانينيات لكل من فيران غارسيا سيبيا وميغيل بارثيلو تعكس المنحى المتوتّر بين التشخيص والتجريد.

وفي فضاء بعنوان "الشكل وعكسه" تعرضُ أعمال بيُّو إيرازُّو، وتكسومين باديولا، وروخيليو لوبيث كوينكا، وبيدور روميرو، من خلال تقنية الإنشاءات والفيديو والفرجة والفوتوغرافيا، تقنية توظّف مفهوم التهجين بمعناه المفتوح الذي يُلغي الحدود بين جميع الأشكال التعبيرية في التشكيل، وفي إطار الالتزام المتجدّد للفن بسياقاته الاجتماعية المتوتّرة في راهننا، وفي علاقته بالتصوّرات النسائية ومساءلته العميقة للقوالب النمطية المهيمنة، ولمفهوم الجسد يأتي إدراج عملين لكل من يولاليا بالدوسيرا وهيلينا دي ألميدا في هذا الفضاء.

"الفضاء المتفحّص" هو عنوان فضاء جرى تخصيصه للتصوير الفوتوغرافي، تصوير المدينة باعتبارها مسرحاً يبرز النسيج الاجتماعي، والمشهد الطبيعي، والمحيط الثقافي في أعمال ميدر لوبيث أثناء إقامته في نيويورك، ورهانه على التدخّل في أفق مدينة لا تنام، أو أعمال أكسيل هوت بصدد إعادة بنائه للذاكرة التاريخية لعزلة كارلوس الأول، بعد تنازله عن العرش. أما أعمال ميرايا ماسو فترتبط بحكايات عبورها مثل آخرين بحدائق وأماكن عامة من لندن.

وفي رواق "صور عمياء"، يُعرض عمل إغناسي أبايي، وهو عبارة عن سلسلة عنونها بِـ"سِيَرٌ"؛ عمل منشغل بإعادة تسمية الألوان وإعادة كتابة تاريخ الفن ولغته ومادّته، رغم المفارقة بين المنحى السردي الذي تَعِد به اللوحة وبين ما تقدّمه كأشكال تعبيرية. وثمّة عمل لجواو لورو من لون واحد معنون بصورة عمياء، يتيح للمشاهد أن يرى ذاته منعكسة في العمل، عمل مستفزّ بما يلمح إليه في الأسفل.

نفس المسار يسير عليه فولفغانع تيلمانس وتعامله مع اللون في عملية التمرير العشوائي عبر المعالجة التناظرية الموجبة التي تكشف ما تختزنه كل لوحة من كيمياء خاصة، أما نيستور سانميغيل فيرتبط بحرفة الفنان وبالمعرفة بالتقنية قصد توظيفها في الأعمال التشكيلية الملغزة والمشفّرة التي تنظم في شبكات على سطح القماش بشكل متراكب، أما بيب أغوت فيقدم في "غرفتان غير دقيقتين" من خلال لوحته المزدوجة بنية مرآوية في مواجهة مع المشاهد.

وفي "ختام"، ترحل المجموعة نحو المحيط العالمي، فتقدّم أعمالا فوتوغرافية لكل من كنديدا هوفر، وكريستينا لوكاس، ودانييل غارسيا أندوخار الذي يستثمر الإمكانات التي تتيحها الطباعة الرقمية على الورق والتي يتم تنزيلها عبر الإنترنت عن عالم الصفقات. معرض من "غويا إلى اليوم" يقدم لزائره جولة قصيرة وأحياناً متقطّعة في مسارات الفن التشكيلي الإسباني.

دلالات

المساهمون