شوارع المخيّلة الروائية

شوارع المخيّلة الروائية

06 مارس 2019
تمّام عزّام/ سورية
+ الخط -

يُضفي غاستون باشلار على البيوت التي تواجه العدوانية الوحشية للعاصفة فضائل إنسانية، ويذهب إلى حدّ يعتبر معه أنّ البيت يكتسب، وهو يقاوم العواصف، القوّة الجسدية والأخلاقية للجسد الإنساني.

لا يتعرّض الفيلسوف الفرنسي لفكرة حدوث عدوان من قبل الإنسان على البيوت، فقوله لا يفترض حروباً أو تهديماً؛ فإذا ما وضعنا فكرته التي تُسائِل الطبيعة مقابل الحروب التي يصنعها البشر، فإنّنا نلاحق الأصداء في نفوس الذين تهدّمت منازلهم. أصداء تعيش في الذاكرة وتتجلّى في الأدب، في الرواية على نحو خاص، باعتبارها مسرح الماضي الذي يُطلّ على المستقبل. بالتالي، هل يغادر الروائي البيت بعدما غادره أهلهُ؟ وماذا إن غاب البيتُ نفسهُ! لمَ يعيد الروائي إحياءه؟

أوّلُ ما يواجه الكاتبُ فكرةَ تغيير المكان، فإنّه يواجه فكرة التخلّي عن المكتبة، ماذا يفعل بكتبهِ وأين يذهب بها؟ ثمّ إذا أخذ الكتب، كيف يأخذ الجدران التي تجسّد بشكل ما صورة للذكريات؟ هل يأخذ كاتب سوري معه إلى المنفى جبل قاسيون في دمشق، أو ميناء القصب في اللاذقية أو البادية السورية الممتدّة على محافظات عدّة؟

هذه فرضيات لهجرة تلقائية بالإمكان العودة معها، إلا أنّ تهديماً وحرماناً يجعل المشهد برمّته مختلفاً، إذ ما أن يفقد أحدٌ أمكنة إلفته حتى يُعيد تأسسيها في داخلهِ، وبهذا فإنّها تُعيد تأسيسه بدورها؛ فالبيوت التي قام عمّال ببنائها من إسمنت وحجارة، وآلت جرّاء حروب وعسف إلى خرائب وبقايا، لا تمضي إلى العدم، وإنّما تصبح كلمات في روايات تشيّد عماراً مقابلاً، يكون شاهداً على جرائم أطبقت على البيوت وأهلها، ما يقصر دور الروائي على أن يكون أميناً للراحلين، بشراً وأمكنة.

في فيلم الأميركي ديفيد لوري "A Ghost Storyّ" (من إنتاج 2017) يموت الزوج بعد التحضير مع زوجته لتغيير منزلهما، لتبقى روحه في المنزل بعد رحيله، ويلمح طيفُ الزوج حياة زوجته وهي تعود طبيعية، ترتبط مجدّداً وتخرج من المنزل، ليُهدَم، ويبقى الطيف عالقاً في جغرافيا ضيقة تشكل ذكرياتهِ، فيما يشاهد حياة الآخرين وهي تنمو وتتغيّر.

يشبه هذا دور الروائي، إذ بينما يغادر الآخرون إلى حياة جديدة، يبقى ليحفظ سيرهم، أو ليعيد توليفها ضمن وظائف، لم يتوقّف هذا الفن عن التصدّي لها؛ تدل على الزمان بقدر ما هي وفية للمكان. وقد قدّم الألماني فيم فيندرز في فيلم "Wings Of Desire" (عام 1987) مدينة برلين قبل انهيار الجدار وثمّة ملاكَان يحرسانها، يلخّصان وظيفة الفنّانين؛ إنّهم يلمحون الخراب الإنساني ويرتحلون بين أزمنة عديدة، الثابت فيها حياد الفنان، وعدم تورّطه في الخلاص الفردي، لأنّ في خلاصه الفردي مغامرة قد تقود إلى فنائهِ، بانفصال مادتهِ عن دورها أو تخلّيه عن مهمّته.

ينمو الأدب بين الخرائب، يشيّدها من جديد ويعيد الحياة إليها عبر شخصيات تنطوي على انفعالات وعواطف وأفكار، تتسرّب منها حيوات قديمة وبائدة، إذ نجد أنّ البيوت التي يراها باشلار تكتسب صفات الإنسان، وهي تقاوم الطبيعة، فإنّها إذ تتهدّم بفعل الإنسان نفسهِ، لا تتفوّق عليهِ وإنّما تهدر إنسانيته، وتضعه أمام صورة قبيحة هي صورة القاتل والخسيس. ليعيد الكاتب، عبر اللغة، شيئاً من البريق لإنسانية مُخرّبة.

ويبدو مفهوماً تلقّي القرّاء لروايات تتناول الحروب والدمار، إذ إنّهم قد لمحوا الحياة في مدن مهدّمة ومنسية، وقد أعاد روائيّون، عالقون في ذاكرتهم المكانية، بناءها، من صرخات وأسى، من ضحكات بقيت على الجدران، وآمال آثارها في أحاديث ما تزال أصداؤها تتردّد في شوارع زالت من الواقع، ويعبرها شخوص على نحو يومي في المخيّلة الروائية.


* كاتب سوري

دلالات

المساهمون