بورتريه لشعر الإسبانيّة في الستينيات والسبعينيات

بورتريه لشعر الإسبانيّة في الستينيات والسبعينيات

22 أكتوبر 2015
(جدارية لـ ريكاردو كارباني، بوينس آيرس)
+ الخط -

خلال الستينيات والسبعينيات، عانى شعر اللغة الإسبانية من هيمنة ساحقة للغة العامية، والذي ربما أخذ حافزاً جديداً مع ظهور "قصائد وقصائد عامية" (1954) لنيكانور بارا و"منقوشات" (1961) لإيرنيستو كاردينال، والتي تلتها ترجمات لاتينية، وكذا العمل الدعائي لفرنانديث ريتامار1. هنا إعادة تركيب لفسيفساء مشهد الشعر المكتوب بالإسبانية.

خلقت شعرية المنقوش (الاقتصاد اللفظي، والتلاعب الحججي والحدة، والسخرية والهزل، والمزج بين المرارة والصدق)، الذي كان يطالب به كينتيليانو من أجل الأدب، نوعاً من مشروعية ما زالت تؤمن بالشعر البوحي العاطفي، وقد يقول بعضهم الشعر المبهر والرومانسي الجديد، والمتعاطف مع النضالات ومكتسبات اليسار2.

حسبما وصف بْيير بورديو، فكل حقل ثقافي، والأدب ليس استثناءً، يتميّز بالصراعات التي تنشأ عناصرها الفاعلة المختلفة للنضال من أجل إضفاء الشرعية على مشروعها الإبداعي الخاص. (اقرأ الشعرية)3 مرّ الشعر الإسباني خلال الربع الأخير من القرن العشرين بمثل هذه الضغوط.

في أحد جوانب اللغة، كانت العامية شعراً قوياً4، كانت البيرو والتشيلي معقله. بدأت العامية، في البيرو بريادة أنطونيو ثيسنيروس (1942)5 بدفعة سردية، وهكذا ظهر نص كلاسيكي مثل نص "ضد الطبيعة" لكاتبه رودولفو إنوستروثا (1942).

النثر العامي يحتلّ مقاماً ثانياً في الاحتكاك مع التيارات البوحية لشعر أميركا الشمالية. بطريقة ما، كانت تتزوّد أو توازي شعر "البيتْ" (beat poesía). ظهرت أسطورتان عظيمتان في هذا السياق في شعرنا الحديث: مارغارا ساينث (ربما الاسم المستعار لـ ميركو لوير وأبيلاردو أوكيندو وأنطونيو ثيسنيروسْ) بـ"مرّة أخرى أماريليس" وماريا إميليا كورنيخو (1949) التي، وفقاً لماركو مارتوس، أحدثت ثورة في الشعر المكتوب من قبل النساء في البيرو، إضافة إلى أميركا اللاتينية.

خلال تلك السنوات، وجدت العامية في إنريكي لين وخورخي تايّير منارتين أساسيتين. هذا الأخير أعاد إحياء الشعر اللاتينوأميركي بـ"لمسة" آدمية، ما زالت مستمرة في التقاليد الشعرية للقارة.

كان الشعر الغنائي، والبحث عن الوهم البوحي والعامية، صيغتين استُهلكتا من كثرة الاستعمال؛ أي أنهما اندمجتا في أفق التوقّعات، لم تعُودا تفاجئان، وباتتا تُعرفان بتسميات مميّزة سيئة كـ "شعر سهل" أو "شعر مفهوم فعلاً"، بدلاً من المقولة الشهيرة لـ ليثاما: "الصعب فقط هو المحفّز".

هذا التعب من الأشكال، سهّل من اندفاع التيارات التي أعقبت المسارات المختلفة المرسومة من لدنّ الحركة التجديدية الأكثر رجوعاً إلى الجذور، والتجسيدية البرازيلية، من خلال شعر وتأملات ليثاما، وبما في ذلك أعمال سيبيرو سارْدويْ6.

ظهر الشعراء الباروكيون الجدد في سنوات الثمانينيات؛ وجمعوا لأول مرة في مجلد "مختارات الكاريبي ترانسبلاتينو" (1992)، بزعامة خوسي كوثير (1940) وروبيرتو إتشابارين (1944) ونيستور بيرْلونْغِيرْ (1949).

هؤلاء الشعراء أنتجوا نوعاً من الانقسام في الشعر الإسباني. بيرلونغير، الأكثر تميّزاً في هذا الشعر، يشرح قائلاً إن النيوباروكو (الباروكو الجديد) "ليس هو شعر الأنا، وإنما شعر نكران الذات".

هناك في النيوباروكو، حسب الأرجنتيني، "بعض الميول إلى المفارقة، ورغبة في البحث عن الغريب في اللغة، وغير المعتاد، وإعجاب بما هو مُلتوٍ وهابط أو "المقيت" في عروض الموضة الكلاسيكية"7.

ينطوي الفضول الباروكي على شغف بتمزيق الحدود. لديه ميل نحو التجربة أكثر من العمل المنجز. جُمعت أعمال هؤلاء المؤلّفين في مختارة ذات خصوصية أمريكولاتينية ملحوظة ميّزت حقبة من تاريخ الشعر: مِيدُوسارْيُو. عيّنة من "الشعر الأمريكولاتيني".

هذه المختارة، بعد مضيّ ثلاثة عقود، كانت بمثابة تحيين للأنموذج الذي اقترحه أوكتافيو باث منذ سنة 1966. وفقاً للمكسيكي، ظهرت في شعر القرن العشرين بعض الخصائص لطريقة مختلفة للعمل على القصيدة أو التلاعب بالمعنى. بالنسبة إلى باث، هذه الخصائص الجديدة هي كالآتي:

أولاً، أعمال حديثة تميل أكثر فأكثر لتصير حقولاً للتجارب، ومفتوحة أمام فعل القارئ وحوادث خارجية أخرى.

ثانياً، يذهب شامب أبعد من ذلك؛ عند تفكيك مفهوم العمل نفسه، نضع الإصبع على الجرح: المعنى. كان علاجه جذرياً: قام بتحليل المعنى.

ثالثاً، نشر مَيَارْمِي في أواخر القرن الماضي في مجلة "أَنْ كُو دُو دِي" وهكذا دشّن شكلاً جديداً من الشعر. شكل لا يحصر معنى فقط وإنما شكل في بحث عن المدلول.

رابعاً، "عرضة لتدخّلات القارئ ولفعل ـ محسوبة أو غير إرادية ـ لعناصر أخرى خارجية، كما أنها تستفيد من الحظ وقوانينه، والذي يتسبب في الحادث الذي يؤدي إلى الإبداع أو تدميره، ويحوّل العمل الشعري إلى لعبة أو احتفال".

أخيراً، "... فتح أبواب القصيدة لكي تدخل كلمات كثيرة وأشكال وطاقات وأفكار كان يرفضها الشعر التقليدي".

المغزى ممّا قيل، في النهاية، أن النص الشعري "الجديد" لا يطمح إلى بناء خطاب تلميحي، وإنشاء بُعدٍ رمزي، وإنما، على العكس من ذلك، غايته هي فعل النطق عينه؛ أي الوجود كخطاب (في حالة "زعم" القصدية الجمالية) واتخاذه، من وجهة نظر عامة، كشعر، أو بالأحرى، كـ"كتابة".

فتح النيوباروكو هذه الأوردة، ووسّع مجال الشعر إلى حد رفعه وحمله إلى أرضه المثالية: ما هو غير مستقر، سؤال حول ما هو الأدب. هذا الشعر، في الحقيقة، كان يبدو أنه يخضع إلى عملية بعض المفاهيم المطوَّرة من قبل السيميولوجي عمر كالابريسي: التقريبية اللغوية للتأصيل إلى لا دراية أدبية8.

حافظت إسبانيا، ضائعة أو منسية من قبل النيوباروكيين، خلال تلك السنوات على إشكالاتها الخاصة. كان الشعر الثقافي والفكري للأواخر (المحمية في موضة التناص ـ المُنظّرة من قبل جوليا كريستيفا سنة 1969) لا يطاق بسبب توجّهه الجمالي الجذري/ الراديكالي لكتّاب ما كان يسمى بـ "شعر التجربة" أو "العاطفة الأخرى"، الذين كافحوا من أجل شعر أكثر التزاماً مع "العالم الحقيقي". كانوا يتبعون بطريقة ما النهج الذي وضعه قدوتهم من الملتزمين اجتماعياً مثل غابرييل ثلايا، وعلى وجه الخصوص، خايمي خيل دي بييدما9.

يقول الكاتب الأكثر تمثيلاً لهذا التيار، لويس غارثيا مونتيرو (1958)، موضحاً أن الشعراء الذين بدأوا النشر في سنوات الثمانينيات، (بنخامين برادو وكارلوس مارثال وفيليبي بنيتيث رييس؛ وجيله)، "اتبعوا مسارين ظاهرياً مختلفين جداً، ولكن في الواقع هما رأسَا تنّين واحد: الحميمية والتجربة، وأسلوب الحياة أو يومية الشعر"10. يتعلّق الأمر بشعر عاد ليؤمن بالأنا في حقبة كانت تسعى إلى إخفائه.

هذا الموضوع الغنائي المقترح ليس هو الأنا "إرضاء النفس" للتيار الرومانسي وإنما هي مطالبة بالوساطة، وخيار سيميائي من أجل بناء خيال وخلق تأثير واقعي. وفقا لغارثيا مونتيرو، "لم ينبثق ما يُسمّى بشعر التجربة من رغبة متعلقة بالسيرة الذاتية، حكائية، بل من الوعي بأن الشعر كان نوعاً من التخيل، الذي كانت فيه الشخصية الأدبية تُستخدم لتشييء التأملات والمشاعر الخاصة الأكثر حميمية، ممثلين هكذا عملية معرفة".

هوامش
تأثير العامية، الشعر العامي، والتكييف مع الخارج وحيثياته كان أساساً في أميركا اللاتينية. كاردينال، على سبيل المثال، خلال سنوات دراسته في مدرسة أنْتْيُوكْيَا، حافظ على اتصال وثيق مع الشعراء الوجوديين اللاتينيين، وقربهم من شعر أميركا الشمالية وكان هو نفسه بمثابة قدوة. الشيء عينه حدث في المكسيك عن طريق سيرجيو مُونْدراغونْ ومارغاريتْ راندالْ مع "المزمار ذو الريشة" وفي الإكوادور عن طريق الشعراء السانسكيين.

2 في تلك السنوات، كان هناك نوعان أساسيان من الشعر في اللغة الإسبانية في المواجهة، وكان لها في المختارة المقدّسة المكسيكية، "شعر في حراك" (1966) واحدة من معاركها الجلية. بينما كان أوكتافيو باثْ يدافع عن فكرة كسر التقليد، وإعطاء قيمة للتجربة وتقديس "الجديد" كمعيار للجودة الأدبية، أما علي تشوماثيرو وخوسي إمِيليُو باتشيكو كانا يدافعان عن: "الكرامة الجمالية، والمواءمة - في اتباع نهج أوراثيو-، والكمال". إن مفهوم كلمة " المواءمة" باللاتينية عُرّفت بمفاهيم التوازن، والتعايش، والتناسب. "يوصي أوراثيو بالوحدة والبنيوية العضوية في العمل الفني والأدبي. وكذا، في الوقت نفسه، تناسباً بين الأسلوب المستخدم من قبل الكاتب والآثار المقصودة إيقاعها في القراء، وبين مقاصد الكاتب والنتائج المحققة، والتعايش بين بيت القصيدة الموظف والجنس المختار". لو كنا قد ذهبنا أبعد من ذلك، لاستقرت المواءمة بين خطابين بلاغيين مثاليين اثنين للخطاب الأدبي: "الحراكي" و"البهجوي". فالأول، "يخلق اضطراباً في نفسية الجمهور المتلقّي (لحْظِي الفعل، وذو آثار طويلة الأمد)". ما زال نهج أوراثيو في "المواءمة" المنارة الجمالية لأولئك الكتاب الذين لم يكونوا يؤمنون بمقومات الحركة التجديدية.

3 في هذا الصراع من أجل الهيمنة على الحقل الأدبي، كما هو الحال في أي حقبة أخرى، ما زال الشعر يعد حظ "عظة لينونيوس" في فضاء السياسة الثقافية والمعاملات الرأسمالية الرمزية. كل لمحة عامة حول الشعر في لغتنا ستكون ناقصة إذا ركزت على القضايا الشعرية فقط وأهملت الطريقة التي تحقق فيها الخطابات المشروعية.

4 وفق كارمن أليماني، فإن العامية تتميز بـ "كونها أقرب إلى الطبيعية، ومميزة جدّاً في التعبير الشفهي (...) وفي استخدام رموز مختلفة لتلك اللغوية التي تبحث عن التأثير في القارئ كبديل، عبر الجمع بين جمل مسكوكة، وخصوصيات اللغة العامية المتغيرة، واقتباسات الشخصيات المعروفة، والأغاني الشعبية أو الشائعة، من أجل خلق شيء من التواطؤ الذي يكتمل بالتزام واضح. علاوة على ذلك، هو شعر "يتغذى مما هو يومي (...) عناصر من الواقع نستعملها في محادثاتنا والتي يتبناها الشاعر كأنها ملكه".

5 في هذا الحقل من الشعر، بدأ إينوستروثا في تيار يعطي الامتياز للرغبة في السرد. يتعلق الأمر بخط اكتشاف للأهمية الكبرى خلال السنوات الأخيرة من القرن الـ 20 بداية القرن الـ 21. يتميز هدا الأنموذج، وفقاً للبيروفي، بـ"نسيج من الإيقاعات"، تعدد الإيقاعات. هو "شكل" غير حصري في الشعر الإسباني، وإنما، على العكس، وجد أتباعا كثر في التقاليد الشعرية المختلفة. بدأت تسمى هذه الظاهرة في بعض الأدب الأروبي "القُصووية الشعرية". في الولايات المتحدة، بشكل مثير للاهتمام في بداية الستينات، سمّي هذا "الأسلوب الجديد" بالشعر التّوسعي.

6 في ديباجة إحدى أحدث مختارات شعر أميركا اللاتينية، ذات أسلوب "باروكي جديد" وتجريبي، يشرح ماوْرِيثْيُو مِيدُو أن "بينما الخطاب الموروث من الستينات والسبعينات (مصطلح العامية، و"الشعر اليومي" أو "التّخاطبي" هي عبارات ابتدعها فرناندثْ ريتامار) إذْ كان يكرّر مراراً الإجراءات نفسها التي ساعدته في الوقوف كمحور منهجي، جميعها تفتقر إلى عنصر مفاجأة ضروري، إلى غاية أن تبقى محصورة في كتابة مشبعة بالمكان المشترك. هذا النوع من الخطاب، الخائف من المناطق الغامقة للغة، كان يحرص ما أمكن ألا يكون صعباً جداً، سواء على مستوى النطق أو في تفسير الرسالة، خاضعاً للالتزام السياسي ولبعض فئات اجتماعية معينة، يمكن أن يفسّر بطريقة ما ظهور "شعر الباروكو الجديد".

7 ويضيف بِيرْلُونْغِيرْ أن الباروكو هو "تشبع اللغة التواصلية. اللغة، يمكن القول، تتخلى (أو إقصاء) وظيفتها التواصلية، لتتجلّى كسطح خالص، وسميك، وقزحي الألوان، والذي "ينير نفسه بنفسه": "آداب اللّغة" التي تخون وظيفتها الأداتية المحضة، الفعالة والنفعية للغة، في تعرجات التلاعب بالأصوات والمعاني". عند اعتناق الغموضيين، "للمذهب المنغلق المكون من علامة شعرية باروكية، أو أفضل قولاً، الباروكو الجديد، يصبح التأويل غير قابل للتطبيق: يحدث "تخريب مرجعي لا يتوقف"، واختزال متعذر لا يوصف، في الاستقلالية المطلقة للقصيدة" (24). في الشعر الشمالوأمريكي، الذي مارس تأثيراً واضحاً على مختلف التيارات الشعرية في لغتنا، نهج مماثل جداً لما دعت إليه "حركة اللغة الشعرية"، مدعومة من قبل مجلة L=A=N=G=U=A=G=E وشعار الشكلانيين الروس: بجملة على هذا النحو"Slóvo kak tatkovóe".

8 وفقا لكلابريسي، "أول أنواع الأشكال الخطابية "للتقربيين" و"اللاأدريين" يمكن أن يُعنون لغاية ظلامية".

9 ربما غابرييل ثِلاَيَا في قولته المشهورة "الشعر سلاح مشحون بالمستقبل"، كان قد اقترح برنامجا، أو بالأحرى، خط حساسية تبعها شعراء شباب: "ألعن الشعر المتخذ كترف ثقافي من قبل المحايدين"؛ "ألعن شعر من لا ينخرط حتى يهمّ بالرحيل".

10 يوضح غارثيا مونتيرو أن "الجانب الشخصي لتجربة مشتركة هو ميزة شعر متواطئ، يطمح إلى أن يصير لدى القارئ كنوع أدبي حي وقادر على بث أحاسيس عظيمة". كان يكافح هكذا من أجل "القرب من التجربة المشتركة، ونبرة واقعية قادرة على أن تعطي للقصيدة مشاعر الرغبة والمصداقية، يعني، جذب مُغرٍ للقراء". وأخيراً، بالنسبة للشعر التجريبي هو أمر أساس "فهم القصيدة كفضاء عام، بطله كائن تاريخي يُنظّر في علاقات تربيته العاطفية مع العالم من خلال لغة مُنْعمة التدقيق، وصارمة، ولكن لا تصل إلى أن تعتبر نفسها لغة مختلفة عن لغة المجتمع الذي تعيش فيه". ومن المثير للاهتمام، في تلك السنوات نفسها، في شبه الجزيرة، أن يعيد البرتغاليون النظر أيضاً في الوظيفة المرجعية للّغة. هكذا ولدت "الواقعية الجديدة" التي اتخذت من شعر آل بيرتو كعَلَم لها.


(الجزء الأول من الدراسة)


* Alí Calderón شاعر وناقد وأستاذ جامعي مكسيكي، من مواليد 1982.

**  ترجمة عن الإسبانية محسن بندعموش


اقرأ أيضاً: هذه الجبال الضائعة في تشيلي

المساهمون