مديح التاريخ... تضخيمه وإخراسه

مديح التاريخ... تضخيمه وإخراسه

03 يوليو 2017
مشهد من المسلسل التركي "حريم السلطان"
+ الخط -

هل هي مسلسلات أو روايات تاريخية بالفعل هذه التي شغلت الشاشات والعيون طيلة شهر رمضان الماضي، وبعضها ما زال يتدحرج وصولاً إلى الشهر الحالي؟ هذه المسلسلات، بأنماط أزياء ممثليها العجيبة، ولغاتها المتماثلة التي لا تحمل خصوصية دالة على شخصيات أو مراحل معيّنة، لا تعلّق لها بالتاريخ بل بمقاربة مفهوم له يتضارب بين معنيين، بين ما حدث وبين ما يقال عما حدث، بين الواقعة وبين رواية الواقعة.

نجاح أو فشل هذه المقاربة رهين جملة عناصر أهمّها عنصر الإبداع النصّي. ولكن الملحوظ أن هذا العنصر، مع أهميته، يُلقى وراء ظهر الروايات التاريخية التي يكتبها تلفازيون وروائيون، ويتركز اهتمام كتّابها ومخرجيها ومصوّريها على مشاهد ملوّنة، ولقطات عريضة، وحركة عدسة تصوير خرساء، ومحاورات تغلب عليها لهجة خطابية عالية لا مبرّر لها في مواقف عديدة.

التاريخ حكاية؛ هذا هو المنطق الغالب، وفي الحكاية يمكن أن يحظى الماضي بالمديح، فتتضخّم شخصياته وفضائله، أو يتم إخراسه إن كان مما يثير حساسية بعض الأنظمة، واستبدال حكاية بحكايته المتداولة إن وجدت، أي إعادة إنتاجه أو تخيّله أو تلفيقه. ولا سبب يدفع إلى الثقة بأن الماضي شهد بين جنباته كل هذا الحشد من البشر العابسين/المتجهمين/ الطيبين/ المؤمنين، الذي لا يملكون من فضيلة سوى إلقاء الخطابات الحماسية أو التفرّس بنظرات حادة أو قلقة أو دامعة فيمن حولهم.

ألم يكونوا بشراً شأنهم شأن من يشاهدهم على الشاشات؟ هذه النزعة المسرحية المهيمنة على حكايات وشخصيات التاريخ، سواء كان مستبدلاً أو منتجاً أو ملفقاً أو متخيلاً، تكاد تكون نزعة ثابتة لها ما للنمط من ثبات ودوام.

السبب كما نعتقد، يرجع في جزء منه إلى نظرة متهيّبة إلى الماضي، تقاربه وجلة/متردّدة/خائفة، كأن سكانه من عالم آخر، تجري أحداثه بين كائنات ليست من هذا العالم، أو هي منه ولكنها صعدت في سلم التطوّر وتحوّلت إلى كائنات خارقة وعجيبة.

كل هذا بعيدٌ عن طبائع الأشياء، وعن القوانين التي تحكم سكّان كوكب الأرض. نظرة أصحاب هذه الروايات إلى الماضي شبيهة بنظرة من يرى صروح الماضي العظيمة فلا يجد تفسيراً لقيامها إلا باللجوء إلى حكايات الجن والعفاريت، أو في القول إن بناتها كانوا من العمالقة الأشداء.

بتأثير هذه النظرة غير الواقعية، نجد كاتب النص والمخرج وصانع الأزياء، يبالغون في كل ما يصنعون ويبتكرون، اعتقاداً منهم أنهم بهذه المبالغة في التوشية والتلوين والإغراب والتغريب، يصلون إلى مقاربة من نوع ما إلى أناس الماضي، ويقبضون على جوهر الأحداث التاريخية التي عاشوا في شباكها.

رداً على كل هذا التهويل الذي يتجاوز التخييل إلى التلفيق، سنحتاج إلى عين أخرى، وفكر مختلف، سواء في صياغة النص أو تصوّر أناس الماضي، لغة وأزياء وطرائق حياة، أو في تناول ما تركوه من آثار وكتابات. بهذه العين الأخرى، والفكر الأكثر اقتراباً من الأرض، سنرى فيهم بشراً يحملون ما نحمل، ويتصرّفون كما نتصرّف، بلا مبالغة ولا انتقاص، عصفت بهم العواصف نفسها التي عصفت بنا، وتجاذبتهم العواطف نفسها التي تجاذبتنا.

ولن نكون بحاجة إلى اتباع أصحاب المصلحة في إخراس التاريخ أيضاً، وتبني مروياتهم، وصناعة قصص مما هو شائع ومبذول في زاوية هذه الخرافة أو تلك. سنبتعد عن قصد التضخيم، وإن كان نابعاً من نيات حسنة، تضخيم الأشخاص والتعابير والأزياء بغية تحفيز الحاضر على إعادة النظر في حجمه وواقعه البائس، والنظر في مرآة هذه الأعمال "الفنية" المحدّبة، لأنه قصد مفتعل ومضاف، لن ينقذ هذه الأعمال، أو غيرها من أعمال الفن، الرواية والمسرحية والقصيدة، من الوقوع في النزعة الكارتونية، وإضحاك الناس بدل إثارة توقهم وتوجيه أيامهم نحو الرائع والجميل والجدير بالحياة البشرية.

المساهمون