دفتر ملاحظات

دفتر ملاحظات

11 يوليو 2019
من داخل "مستشفى سان باو" في برشلونة
+ الخط -

بعد أن يجلس أمام دفتر الملاحظات، يكتب: "أعتقد أن اللغة وسيلة للتعبير عن شيء ما، ما زلت لا أعرف بالتقريب ما هو".
يواصل: "أتذكر دائمًا أنني أحاول التعبير عن الأشياء ولكن بدون العثور على الكلمات".
يتوقف ثم يُكمل: "على الرغم من أنني أنظر كثيراً إلى الوراء، وكذلك أجري بلا توقف من أعماق المحيط إلى سراب السماء".
يتنهد: "وفي كل مرة، لا أفعل إلا تدوير عجزي في دفتر الملاحظات.

ذلك أنني أكثر تعلقًا بالأرض وتشوهاتها من فراديس السماء.
وليس نادراً أنني، بعد أن أفرغ من قراءة قصيدة، يرافقني هذا الإلهام الأمومي للتراب، حتى وأنا منهمك في غسل الأطباق.

رفعتنا في تلك الأراضي الشعرية الخالدة، فقط. فقد جئنا من أحشاء الأرض: تذوقناها حبة بازيلاءَ فحبة بازيلاء، وعرفنا أن علاج الموت هو الحب، فلا ننظر للنجم بأكثر ما ننظر للقدمين. ثم إن الريف لا يحتاج إلى بنكٍ، لأن جيرانه غير مجهولين لبعضهم البعض.

ألم يقل ـ "أحبب ما هو أبعد من نفسك" ـ لسانُ الشعْر؟ ولربما "خطرف" فقال: أيها الشاعر، تعلم من الصائغ: صقْل الجمال. وفي الوقت نفسه، قُل: نحن هنا، على الرغم من أن التاريخ يحاول تغطيتنا وكم ينجح.

نعم. أعطانا الشعر حساسية: نظرة أخرى، صرامة في هذا البحث المستمر عن المثل الأعلى، الذي يعني أن نواصل حربنا ضد الواقع. وحربنا ضد من في يده كوب الحليب الطازج، ويؤمن دوماً بعالم موازٍ مصنوع من مشيمة الأبقار.

هو الخبير في حروب القرنين العشرين والحادي والعشرين، ما الذي يمنعه، بعد التقاعد، من أن يصبح شاعراً، إذا نحن لم نقف له ونقرّعه؟

لئلا؟ لئلا يضحي كذاك الروائي الدائري طيّ النسيان، متلوناً وله ميزة: أن يُغطّس القارئ في فقاعة بحر الخيال، وأن يجعله، لأسباب جِدّ طبيعية، يسافر في الوقت المناسب لحضور مآتم الآخرين.
نعم، ها أنا ذا أراهم أخيراً: لصوص الكوكب.
وأرى أطولهم نفوذاً يعيش الشيخوخة كشكل فني.
بينما ألكسندرا، وجمالاها ـ الداخلي والخارجي ـ يموتان يومياً أثناء العمل كنادلة في مكتب مُخلّص الضرائب.
وعليه، أفكر في تركي سنفسيل هذه المهمة: مراقبة نملة طوال نهاية الأسبوع.
وألا ألتقي بواحد من الروائيين حتى أبلغ سن المراهقة الثالثة.

لقد استغرق الأمر سنوات، كي يكتشف الواحد خريطته الأدبية. فالعالم كما تعرفون ليس بتلك البساطة، ولا الكياسة أيضاً.
ثم ما هذا؟ شاعر نهاري؟ أُفضّل القهوةَ على الحليب.
وأميل إلى الشعور بالملل في المؤتمرات. وصباح الأول من تشرين الأول/ أكتوبر قبيل سنوات أربع، هبطتُ على جزيرة مينوركا وواجهت مصيري فوق تلة صخور من تلالها الداكنة.
شيء لم أستطع تفسيره، حتى اللحظة، إلا بهذا: لربما كنت شخصية موجودة على قيد الحياة آنذاك، مثلما يمكن أن أكون شخصية ميتة في الآن ذاته.

إني شاعر ولست مَن هو بطل الرواية الأولى من ثلاثية الحرب.
مع أن كل شيء حدثَ على النحو التالي: كنت في تلك الجزيرة، وأخذت نسختي من سيسر بييخو، فقرأتها وقلت لرفيقتي الكتلانية: بالضبط. كل ما ذكره الشاعر بين هذين الغلافين جديد.
ثم نمت فاستيقظت فإذا أنا بمستشفى سان باو ببرشلونة، الطابق الثالث، الباب الرابع على شمالك.
سان باو تلك التحفة المعمارية بطبيباته الجميلات، يليق حقاً بموت أمثالي من معدومي السقوف.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون