"عام 68 الطويل": حين ترنحت "ديموقراطيات" الغرب

"عام 68 الطويل": حين ترنحت "ديموقراطيات" الغرب

08 مايو 2018
(مواجهات بين الطلبة والشرطة، مايو 1968، تصوير: ريغ لانكاستير)
+ الخط -

في كتاب صادر حديثاً يترافق مع مرور نصف قرن على انتفاضات عام 1968، الطلابية والعمالية، والاحتجاجية المناوئة للحرب في فيتنام، والحركات المطالبة بالمساواة بين الأعراق والتحرّر الجنسي، والمتحدية بعامة لكل أشكال السلطات القائمة، يقرّر صاحبه المؤرخ البريطاني ريتشارد فينن إعادة بناء ما يسميه ذاك العالم المفقود، ويبدأ بملاحظة "أن كل السلاسل الجبلية البارزة اختفت"، ويعني بذلك أنّ ما كانت في أيامها نُظماً منيعة، مثل الاتحاد السوفييتي وصين ماو، انهارت أو غيّرت أشكالها بحيث صار من المتعذر تبيّنها، ويعيد تكرار ما سبق لعدد من منظري النظم الرأسمالية التشديد عليه، أي اختفاء الأيديولوجيات أيضاً، التي هي بحد ذاتها دعاية أيديولوجية لأنها تكرّس ضمناً وحدانية أيديولوجية أصحابها.

إذا أضفنا هذه المقدمة الدالة إلى ما يشير إليه العنوان "عام 68 الطويل: الاحتجاج المتطرف وأعداؤه"، نكتشف منذ السطور الأولى أن هذا المؤرخ رغم غزارة الإحصائيات والبيانات التي يأتي بها، يضع نصب عينيه ليس بناء عالم مفقود حقيقة بل إعادة رواية قصة يمكن أن نجد لها نسخاً في عدد كبير من المصادر، سواء كانت بأقلام بعض أبطال هذه الانتفاضات أو بأقلام أبنائهم، أو بأقلام من يعتقدون أن روح تلك السنوات لم تمت، وإن توزّعت وتنوّعت وظهرت في أشكال جديدة في زمننا الراهن.

وفي ضوء كل هذا، نجده يضع نسخته الخاصة به، متجاهلاً تقريباً كل ما يخطر بالبال من نسخ، بل ويبرهن على صحة أحكامه وآرائه باللجوء إلى ما يمكن أن يعدّ أحد ألدّ أعداء هذه الحركات الاحتجاجية بعداً عن أي موقف نزيه؛ أي أجهزة الشرطة القمعية وتقارير المخابرات بمختلف أنواعها.

ولكن قبل أن نأخذ لمحات عن هذا الكتاب من المناسب أن نذكّر بما يعنيه ذلك العام الذي لم يكن "أوروبياً" أو "أميركياً" فقط كما قد يتصوّر بعض الناس، وكما تصوّر هذا المؤرخ البريطاني، بل كان عاماً ذا أفق "عالمي" بكل ما تعنيه كلمة الأفق من اتساع وشمول.

عبّر هذا العام المتميّز عن نفسه في التحية الشهيرة، تحية "القوة السوداء" التي أعلنها الرياضيان الأميركيان/ الأفريقيان، تومي سمث وجون كارلوس، في أولمبياد المكسيك في عام 1968، وفي فيلم "إذا" للمخرج البريطاني لندسي آندرسن (1923-1994) الساخر سخرية مرّة من نظام التعليم الإنكليزي في شخصية طالب يقود ثورة، وفي الصورة التي تحولت إلى أيقونة للزعيم الطلابي الفرنسي دانيال كوهن-باندت وهو يكشّر في وجه شرطي من فرقة مكافحة الشغب في باحة جامعة السوربون. وبالطبع ترافق هذا مع موجات احتجاجية حاشدة ملأت الشوارع وإضرابات عمالية في كل عواصم الغرب تقريباً، ومع حركة سفر وتنقل لجماعات شبابية بين العواصم من مختلف الجنسيات كان يمكن مشاهدتها في الساحات وعلى مفارق الطرق، أو في مخيّمات مرتجلة.

لم يكن من السهل القبض على جوهر هذا العام، كانت عدة أشياء مجتمعة في وقت واحد معاً؛ كان هناك تمرّد جيل من الشبّان على الشيوخ، وهناك ثورة سياسية على العسكرية الغربية ورأسماليتها، ورمزها الولايات المتحدة الأميركية، وكان تحدياً أيديولوجياً داخلياً للأحزاب اليسارية السائدة، وتمرّداً فردياً ثقافيّ الاتجاه على الأعراف والقيم البرجوازية التقليدية، وأكثر من هذا، كان طموحاً ديموقراطياً نحو المزيد من الشفافية وفرص المشاركة في القرار السياسي.

جوّ هذا الانتفاض الصاخب الذي وصلت أصداؤه إلى الوطن العربي آنذاك، وليس إلى العواصم الغربية فقط، يحاول كتاب المؤرّخ البريطاني، على رغم أهميته التسجيلية في عدد من المواطن، تجاهل الصلات المتبادلة بين حركاته الاحتجاجية بوجوهها المتعددة على صعيد عالمي، ويقرّر أن هذا التواصل "كان مظهرياً وليس واقعياً"، ويختار حقلاً لبحثه يقصره على الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.

ويقوم في هذا الحقل بجهد منظم لتقديم عام 1968 من وجهة نظر أعدائه. فيدفع بالقول مثلاً إن إحدى خصائص حركات الاحتجاج كانت علاقة تعايشها مع معارضيها المحافظين، فكان كل واحد من الطرفين يعيش على الصورة العدائية التي صنعها للآخر.

ويسود هذا الطابع كما يبدو منذ البداية التي ينطلق منها، وهي تشكيل "الحزب الاشتراكي الفرنسي الموحّد" (1960) وصولاً إلى انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا (2017). ويأخذ بقول شرطي فرنسي يرى أن "الطلبة الفرنسيين كانوا يتصرّفون بدافع التلذذ بالتخريب".

إلا أن أكثر صفحات الكتاب تنويراً كانت حين يلجأ المؤلف إلى سرد الأحداث كما تبدو في أعين أبطالها أنفسهم. فينقل القارئ إلى مواقع الحراك الطلابي في "بيركلي" الأميركية، و"نانتير" الفرنسية، و"الجامعة الحرة" في برلين، حيث تنشط جماعات أساسية مثل حركة "طلبة من أجل مجتمع ديمقراطي"، وحركة "الفهود السود"، و"حركة 28 مارس". ويقدم بالإضافة إلى هؤلاء تجارب نشطاء على مستوى القواعد الشعبية Grassroots، مثل طائفة الكويكرز والماويين والتروتسكيين والنقابيين والفوضويين والحركات النسوية، ضمّوا جهودهم إلى جهود الطلبة.

ومع ذلك تظلّ إحدى نواقص الكتاب، أو مواطن ضعفه، رؤيته المركزة لما يحدث في داخل حقله المحدد الذي أشرنا إليه، مبعداً الأفق العالمي الذي كان في قلب انتفاضات عام 1968. ومما نأخذه عليه، كما أخذه بعض من كتب تعليقاً حوله، أنه لا يأخذ في اعتباره الانتفاضة الطلابية الكبرى في "مكسيكو"، ولا يلتفت إلى الروابط بين الحركات الأوروبية والأميركية وتضامنها في معارك الدفاع عن المهاجرين، ولا كفاح عالم الجنوب السياسي، والمؤثرات الفكرية التي تتجاوز الحدود، والتي ساهمت في تأسيس حركات هنا وهناك، مثل أثر فكر ماو تسي تونغ وغيفارا وفرانتز فانون في تشكيل حركة "الفهود السود" وليس أثر "مالكولم أكس" فقط.

كما نجد أنه حتى في الفصل الخاص بفرنسا، يبلغ منظوره حداً من الضحالة إلى درجة أنه لا يشير إلا بالكاد إلى حربها الاستعمارية في الجزائر، مع أن هذه الحرب تقدّم خلفية بحثية بالغة الأهمية في فهم لماذا كان المحتجّون في 1968 ينظرون تلك النظرة المليئة بالاحتقار إلى رموز السلطة الفرنسية من حكومة وجيش وشرطة، ولماذا كان المحتجّون في شوارع باريس يستحضرون مجزرة محطة مترو شارون الباريسية (1961) التي هاجمت فيها الشرطة الفرنسية مظاهرة يسارية وقتلت فيها ما يقارب الـ200 جزائري كانوا يحتجّون على نشاط منظمة الجيش الفرنسي السرية وفظائعها في الجزائر.

هل يمكن لمؤرخ أن يتجاهل أن الصراع ضد الاستعمار الفرنسي في فيتنام والجزائر أظهر لشبّان فرنسا وأوروبا وأميركا في الستينيات كم هو سهل أن تتلاعب السلطة السياسية بالنظم الديمقراطية الغربية، وكيف أنها يمكن أن تنساق بالسهولة نفسها إلى القتل الجماعي باسم ما تسميها "المصلحة الوطنية"؟

صحيح أن الكثير تغيّر منذ ذلك الزمن، وأن ديموقراطيات الغرب التي ترنحت في عام 1968 تحت ثقل تراثها الاستعماري الذي ما زالت تواصله، تكاد تقف على أقدامها الآن بعد أن تبدّلت طبيعة التضاريس السياسية، ولم تختف كما يقول ريتشارد فينن، إلا أن الصحيح أيضاً أن تراث الستينيات الاحتجاجي ما زال مفعوله سارياً على شكل حركات ذات قواعد شعبية واحتجاجية أيضاً.

المساهمون