نسيت أن أعرّفك بنفسي

نسيت أن أعرّفك بنفسي

18 ديسمبر 2014
جزء من لوحة "امرأة تقرأ" لهنري ماتيس
+ الخط -

غالب،

ماذا كنت تفعل في مقهى "إيزافيتش" في ميدان التحرير وفي يدك أعمال برتراند راسل الكاملة؟ قالوا إن "شكلك واحد خواجاتي"، وشعرك ناعم، وإن "أي واحد بهذه الهيئة يبقى على طول برجوازي".

نسيت أن أعرّفك بنفسي، اسمي سانشو، وأنا تابعك. صادفك كثيرون في حياتك، يحبّون نقل الحكايات عنك. أما أنا فعرفتك على نحو أفضل منهم، لقد قرأتك. وأي معرفة يروم الكاتب أكثر من تلك التي تضمرها قارئة مخلصة وتابعة؟

في بيروت، حين لم أكن أجد من أتحدث إليه عمّا أفكر أو أحس، ظهر لي أن بمقدوري الحديث معك. أحياناً تصورت كم كان سيكون جميلاً لو أنني ألتقي أحداً من الأحياء يعني لي مثلما تعني لي أنت.

فكرت منذ أيام في الشبه بين روايتي "دون كيشوت" و"موبي ديك". هل خطر لك الشبه بين الرحلتين؟ أعني ذلك القرب بين البطلين وهما في رحلة الخروج من أجل القتال أو الانتقام، قتال أوهامنا، قتال كل ما هو ضد النسخة المخلصة فينا لأنفسنا، قتال عدو، قتال صديق. ثم هل خطر لك أن حياتك كما لو أنها نُسِجت من خيطين منسولين من الحكايتين معاً، لتصير سيرة من لحم ودم. لم يحدث أن خطرت لي واحدة من الروايتين من دون أن تحضر أنت.

أستعيد تفاصيل قرأتها، حين هربتَ من البلاد آخر مرة ولم تعد إليها إلّا ميتاً. معك حق، البلاد التي أخرجتك حيّاً لا تعد إليها إلا ميتاً. هل صحيح أنك كنت تزعم أنك محكوم بالإعدام في الأردن وتقول ذلك لكل من يسألك عن البلد؟ يا رجل! ضحكت كثيراً من الفكرة، ثم قلت إنك، لو فعلت، فإن هذا ما تشعر به. تلك الأيام كانت مقارنة عمّان سياسياً وثقافياً بالقاهرة أو بيروت أو بغداد، أشبه بالمفاضلة بين الجلوس في حديقة أو مقبرة.

حين قال لي عباس بيضون مرة "غالب مصري مش أردني"، كنت "هبلة" حين امتعضت قليلاً، ثم سخرت من نفسي. هذا صحيح، أن تكون أردنياً هو أصغر جزء منك، الجزء الهامشي في الحقيقة، مجرد تفصيل ليس مؤثراً في أدبك، وإن كان أثّر في مصيره. الحصة الأكبر منك كانت لـ"أم الدنيا"، وهي للأسف ليست مصر اليوم.

أتعلم؟ "السؤال" هي روايتي، قراءك يفضلون "الخماسين" عادةً، لكني أعتقد أنه تفضيل بالعدوى، وليس بعد تفكير. في "السؤال" كل ماركسيتك وكل جنونك وكل جمال لغتك. أحببت كل النساء فيها، كل تهتكاتهن، وطريقة التعبير عنها كما لو أنك كنت امرأة أو عشت داخل واحدة منّا؛ سعاد، زكية، تفيدة. تفيدة على الأخص التي تذكّرني بكاتبة أحببتَها لكنها انتحرت، أظن أنك تعرف عمّن أتكلم.

في "السؤال" أيضاً، كما في روايات أخرى، سحر التفاصيل. قلّما قرأت لكاتب عربي يكترث، إلى هذه الدرجة وبأناقة وتأنٍ، لوصف غليان القهوة، أو غسيل صحن، أو قلي بيضة، أو صوت نزول الأسانسير.

وددت أن أشكرك، وصلني الطرد، أعمالك الكاملة من عمّان. كان ينبغي أن تموت يا صديقي لتعيشَ حياتك بعدك. هذه ليست روايات فقط، إنها ذاتك الوفيّة لنفسها.

المخلصة نوال

المساهمون