أبعد من أخطاء الوزير الإملائية

أبعد من أخطاء الوزير الإملائية

05 أكتوبر 2015
سامي محمد / الكويت
+ الخط -

انشغلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي مؤخراً بالأخطاء الإملائية التي يرتكبها وزير التعليم المصري الجديد (الدكتور الهلالي الشربيني)، فعرضت مقاطع من منشوراته تُظهر، سواداً على بياضٍ، أن الرجل يخلط بين الحروف، ولا يصرّف الأفعال، فضلاً عن كونه لا يقيم الإعراب. هذا خبر ثانوي، جيء به في وسائل الإعلام تندّراً وفكاهة.

ووراء الخبر قضيّةٌ أمّ تتنزّل فيها هذه الظاهرة، وتتعلّق بالكفاءة اللغوية للساسة العرب اليوم. فلئن عرفت الساحة السياسية العربية قديماً العديد من الخطباء والكتّاب المتقنين، ممّن اشتهروا بتملّكهم ناصية الخطابة ومعرفة أفانين القول، فكان إذا خطبوا سحروا الجماهير برونق الكلام، وإن حبّروا تسيل رسائلهم رواءً وجزالة، فقد شهدت الفترة الأخيرة تضاؤلاً في مستوى الكفاءة للمسؤولين السياسيين، وهو ما انعكس في كثرة الأخطاء الإعرابية والإملائية، وفي قلّة المداخلات المباشرة في وسائل الإعلام، وفي تجنّب الفصحى (إلا إن كان الخطاب مقروءاً).

ويكفي دليلاً على ذلك، ما يُصاغ في ندوات الرؤساء والوزراء العرب اليوم، وكذلك حجم التحوّل السلبي في الكفاءة اللغوية كلاماً وكتابة، فضلاً عن ضعف المضمون الفكري فيهما. يترتّب على هذه الظاهرة تفقير تدريجي للأفكار والمبادئ والممارسات السياسية العربية، فتكاد تقتصر على العامي من الآراء والعمومي من التعليقات.

فالجهل بتيارات الفلسفة الحديثة والمنابع الفكرية العالمية للسياسة، يجعل من الخطابات كلاماً أقرب إلى الثرثرة، وهو إفقار يكرّسه استعمال الدارجة. فإذا ما استثنينا مبالغات الإنشاء، يدعم استعمال الفصحى البنية المنطقية للكلام، ويُضفي عليه طابع الرسمية فيزيد من مصداقيته لدى الجمهور، ويُعين الفكر على الرؤية الواضحة لسيرورة التاريخ.

ولا ينكر أحد أنّ مدار الوعي السياسي وسعته يتوقّفان على ثراء المفاهيم المستعملة والمرجعيات الفكرية المستحضرة أثناء الخطاب، ونسق ترتيب البراهين فيه، وفي كلّ ذلك "مرفق كبير ومعونة حاضرة" (والعبارة للجاحظ في حديثه عن دلالة الإشارة). وحديثاً، لاحظ علماء الأنثروبولوجيا لدى القبائل البدائية نوعاً من الارتباط بين درجة تطوّر اللغة وتجريد مصطلحاتها وشكل الدولة الحاكمة فيها.

يُضاف إلى ذلك أن الانقطاع عن نصوص الأدب كمصدر جامعٍ منفتحٍ يغني خيال الساسة، ويعينهم على فهم ظاهر المجتمع والثقافة، ما يحرم هؤلاء من مصدرٍ ثريٍّ في الفكر وتقييم الحقائق والحوادث، دون الاقتصار على ظواهرها الموهمة.

ولنذكر، هنا، أبا حيان التوحيدي -أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء- حين كان يسامر الوزير ابن سعدان ويذاكره في فلسفات اليونان ونواميس الفرس وآداب العرب. والمسامرة الأدبية معين لا ينضب للممارسة السياسية. وفي هذا الانقطاع تكريس للقطيعة مع تراث الشعب وروحه ومصادره الثقافية والفكرية.

ويكفي استحضار أندري مالرو، صاحب كتاب "معاداة الذاكرة" (1967)، وأمثاله من الساسة الذين اتصلوا بأعماق التراث الأدبي لشعوبهم فرشّدوا سياسات بلدانهم، بعد أن أثروا المكتبة العالمية بإنتاجهم.

وأخيراً، نلاحظ في ممارسات الساسة العرب الخطابية غياب التمكّن من اللغات الأجنبية، نتيجة طبيعية لإهمال الإنجليزية والفرنسية في برامج التعليم، وما تزال الفظاعات اللغوية في الاستخدام المبتسر للغات الأجنبية تثير السخرية.

تواضع الكفاءة اللغوية رديف لضيق الأفق الفكري، وكلاهما عنوان لجفاف الينابيع الثقافية التي يفترض أن يغترف منها الفاعلون في المشهد السياسي، مما يحوّله إلى مجرّد فضاءٍ لشعارات لا روح فيها، وممارساتٍ للخطاب دون أية مرجعية فكرية صلبة، وهو ما يحيل العمل السياسي ارتجالاً... والارتجال أولى بذور الاستبداد.


اقرأ أيضا: بحثاً عن اللغة الوسطى

المساهمون