"قصائد مراكش".. مدينة لا يرف لها جفن

"قصائد مراكش".. مدينة لا يرف لها جفن

01 يونيو 2017
(فوتوغرافيا: مونيكا لماكا)
+ الخط -

أنطونيو راميريث ألمانْثا Antonio Ramírez Almanza شاعرٌ أندلسيٌّ (مواليد 1956) اختار منذ زمان التفرّغ للشِّعر، وكان قد كُلّف بالإشراف على مؤسَّسة خوان رامون خيمينيث Juan Ramón Jiménez، أيقونة الشِّعر الإسباني الحديث، والحائز "نوبل الآداب"، وأحد الأسماء الأساسية التي ألهمت جيل 27.

يُقيمُ ألمانْثا في مُوغِير/المغير التي ليست مسقِطَ رأسِه بالعُدوةِ الأندلسية، لكنه اختارَ الكتابةَ عن مُرّاكش "مسْقطِ قلبه"، جاعلاً منها مدار شعره في عمله "قصائد مراكش".

بحذق فنانٍّ، يتوسّل ألمانْثا في دُنوِّه من القصيدةِ بلغةٍ بَصَريّةٍ تطفحُ موسيقى وافتتاناً وأملاً ورغبةً في نقلِ تجربة انصهار المعيش بالحُلمِ في فضاءٍ هو الكتابة، حيثُ تغدو الأخيرةُ سبيلاً إلى العودة إلى مُصاحبةِ المدينة في كل آن وحين، لِتصيرَ مراكش بمعيشها وأمكنتها وأشيائها وجوداً قبل أن تكون أسلوباً.

تتقدَّمُ القصيدةُ في "قصائد مراكش" مثل طاقة محرِّرة تضمن للشاعر استمراراً في الزمان، وصيغةً لجعل المكان يتحدّث بدل صوتِ الشاعر، الذي يكاد الضمير الدال عليه لا يتبدّى، لأنه أرادَ له أنْ يكون خفيَّاً هو الآخرُ.

وأيضاً، تتقدّمُ القصيدةُ حواراً متواصلاً مع ما يُصادف الذاتَ الشاعرةَ التي يجرفُها الاندهاش أمام سحر البشرِ والأشياء والأمكنة. هكذا، تغدو الكتابةُ سفراً للمدينةِ في القصيدةِ وفي الزمان، وعُربونَ محبّةٍ يؤكِّد ما تَمْحَضُه الذاتُ الشاعرة من حُبٍّ للمدينةِ، وهي صيغةٌ للعودةِ إليها دون توقُّف.

قصائد مراكش ترنُّمٌ بشغف طريف، وتَغنٍّ بهوى يَصْدُرُ عن مُصاحَبةٍ للأمكنة وتَرَصُّد لتفاصيل إنسانية، لا يلتقطُها سوى العشقِ الذي يؤلِّفُ بين المرئيِّ والخفيّ، ويُدْنِينا من عوالمَ قلبيَّةٍ ومعارفَ صوفيّةٍ في إبحارٍ شعريّ يكتفي بالإشارة عن العبارة، ويترك للصمت والفراغ فرصةَ تجريبِ بلاغَتَيْهما المتكتِّمتيْن، بلاغةِ الإشهادِ على الحالِ وقولِ الْكثيرِ بالقليل.

هكذا، تُصبِحُ الكلمةُ في الديوان وقوفاً في وجه المحو، ووسيلةً للعودة إلى المدينة لتأبيدها في الذات حين يكون البعد عنها.

منذ الصفحة الأولى، يُطلعنا الشاعر الإسباني على أنه لا يُريدُ الرحيلَ عن هذه المدينة التي تضجّ حياةً..."صوبَ المياهِ/ منحدرةً، صوبَ ظلالِ الزَّيتون"، فبخطواتٍ شعرية مشدوهة يتجوَّل بنا في فضاءاتِ مراكش، يُطلِعُنا على بعضٍ من المُدهِش فيها، حيث "يتوقَّفُ المِسْكُ/ عندَ سَمٍّ/ في ليلٍ/ أبديٍّ".

يتحرَّك العَجَبِيُّ في مراكش أينما ولَّيْت، وهو شيءٌ لا يُمكن أن يحدث إلا هناك... لكنّ تجلِّيَه الأقصى يكون في "ساحة الفنا" على الخصوص؛ هناك "إنْ تقتربي/ تتخضَّبِ الساحةُ/ روائحَ/ فتدخُلينَ عِطراً فيه أراكِ". وهناك، مثلاً، يستحوذ العجبيّ على العيون فَيُبهرُ الكُلَّ، لأنه يأتي بما لا يخطر على بال "حاوي العيونِ":
"ذاكَ خضَّبَ بالأزرق/ جفنيْكِ/ وبينما كان يَمَسُّكِ كان يجرح/ عابري السُّوقِ".

يصير اللقاء بالمدينة اكتشافاً متواصلاً: "كلُّ قطعة مجهولةٍ من المدينة/ هي قطعةٌ حيَّةٌ، ومعيشٌ يوميٌّ...". يُحاول الشاعرُ أن يعدّ ما تهبُه المدينة إياه، فلا يحصيه عدداً: "حُلُمُ أن أكونَ معكِ/ في أيامٍ متواصلةٍ تعقُبُ شمسَها الشَّمسُ".

 إنها مدينة العجائب حقّاً، لأنَّ كلَّ ما فيها عطاءٌ؛ وأعجبُ عجائبها أنها تمنح ذاتَها للآخرين، فيرى الغريبُ، كشاعرنا "أن حضورَ الآخرينَ ليس حضوراً/ بل رفقة".

في مراكش، وهي "قريبة على بُعْد، وبعيدةٌ على قُرْب..." يُشهِدُنا على أن المدينةَ تُقيمُ فيه، "فأنا غيابي فيكِ أنتِ التي تملئينه.." فهو يرحل عنها لِئلا يُغادرها، و يحملها في ناظريْه، ويتدثَّر بليلها، ويُنصتُ إلى صمتها، ويستنطق تاريخها، ويتشمّمُ عَبَقَ روائحها عارِفاً أن "هذه المدينة التي لا يرف لها جفنٌ..."، فضاءٌ استثنائيٌّ، فضاءٌ يتحدَّث عِوَض صوتِ الشاعر.

يفيض كتابُ "قصائدَ مراكشَ" عفويّةً رومانسيَّةً لاحتوائه عناصر الطبيعة (مروج، النور، الروابي، أنهار، النسيم، مياه، ظلال، الدفء، الريح، الأمطار...)، في توليفةٍ دالَّةٍ على الوَلَهِ بالطبيعة وبالمحبَّة وبالبساطة وبالمكان وبالحركة، يصهرُها الحلمُ جميعَها في بوتقة قصائد قصيرة، وتكون كلّ قصيدة كينونة مُستقلّة بذاتها لا تتنازل عن حقها في الحياة، وفي الوقت نفسِه، لا تتخلّى عن الوصل بين الضفاف بلغاتها وألوانها، وعن تنويرنا وإنارة العالَم بتقريب عوالِمِ مُراكشَ من القارئ.

حقائق كثيرة التقطها بصَرُ أنطونيو راميريث ألمانْثا والتقَطَتْها بصيرتُه في "قصائد مراكش"، ونحتَها شعراً أودَعَه بين دِفَّتي هذا الكتاب.

دلالات

المساهمون