لوكوربوزييه: مخططات عربيّة غير مكتملة

لوكوربوزييه: مخططات عربيّة غير مكتملة

01 يونيو 2015
لوكوربوزييه في باريس 1953 (تصوير: ويلي ريزو)
+ الخط -

بعد أن ابتكر المعماري لوكوربوزييه ـ الذي تستعيده فرنسا بعد مرور خمسين عاماً على وفاته هذا العام ـ فكرة "الوحدة السكنية"، تلقفت دول كثيرة هذه التقنية لحل مشكلاتها المعمارية، فقد جسّدها المهندس الفرنكو ـ سويسري لأول مرة في مرسيليا بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، وجاءت بمثابة اجتهاد ظرفيّ بُغية حلّ مشكلة السكن التي نجمت عن الدمار الذي خلّفته الحرب.

لم تكن فكرته هذه إلا وجهاً من وجوه تيار الحداثة في مجال العمران، والذي كان لوكوربوزييه (1887-1965)، من أشد المدافعين عنه، إلى جانب المعماريين الألماني والتر غروبيوس والبرازيلي أوسكار نيايمر وآخرين.

جسّد هذا الجيل ما يمكن أن ندعوه "رِدّة" على أنساق المعمار الغربي وفضّلوا عليه نمطاً جديداً، أكثر وظيفيّة وعمليّة يوازي ويستغل الاكتشافات الحديثة في مجال البناء، كما اتجهوا إلى تبسيطه والتخلّي عن التكلّف الذي امتاز به العمران الغربي.

ليس من قبيل المبالغة القول إن لوكوربوزييه ـ وهذا ليس اسمه الحقيقي بل اسم اتخذه شارل إدوارد جينيريه الشاب السويسري الطموح سنة 1920 ـ هو أحد مؤثثي المدن في القرن العشرين، ليس فقط بأسلوبه ومبادئه التي تأثر بها كثير من المعماريين الجدد، بل بأبنيته الشهيرة الموزّعة بين مدن العالم؛ من اليابان مروراً بالهند وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى عددٍ من المدن العربية، على غرار بغداد التي صمّم فيها قاعة للألعاب الرياضية، وفيلا "بايزو" في تونس، والجزائر التي وضع لها مشروعاً لم يرَ النور.

وكان لوكوربوزييه قد تأثر بالعمران الجزائري على نحو جعله يعزف عن نموذج "الأسلوب العالمي" في البناء. ستحاول الدولة الجزائرية لاحقاً الاستفادة من ابتكار المعماري لمفهوم "الوحدة السكنية"، فتأخذه مُهملة سياقه التاريخي والعمراني، وتتبناه كحلّ سحريّ سرعان ما كشف عن زيفِه وخطورته؛ فما حدث أن اجتثاث نموذج لوكوربوزييه من الواقع الذي فرضه، وإغفال خصوصيات العمران الجزائري القديم أدّى في نهاية المطاف إلى تعقيد إضافي للأزمة.


نوتردام ديهو، أحد تصاميم لوكوربوزييه (شرق فرنسا)

انتبه لوكوربوزييه إلى الخصوصية العمرانية الجزائرية لدى قدومه إلى البلاد سنة 1931 بدعوة من جمعية "أصدقاء الجزائر"، وقام بوضع مخطط جديد للعاصمة. ورغم أن تصوّراته لم تنفّذ بسبب عزوف السلطات الاستعمارية، إلا أن نظرته إلى العمران الشرقي شهدت تحوّلاً جذرياً بعد هذه الزيارة.

فوجئ لوكوربوزييه بالتصاميم الفريدة للقصبة، المدينة القديمة في الجزائر، وبهرته تقنيات البناء والاستغلال المثالي للضوء وتصيّد منظر البحر، تقنيات حرص عليها بُناتها الأوّلون. ونزولاً عند نصيحة أحد المهندسين، زار المعماري مدينة غرداية، جنوب الجزائر، وهي الزيارة التي عدّها مؤرّخو العمارة بمثابة "زيارته الثانية للشرق"، وكانت زيارته الأولى سنة 1911 إلى اسطنبول.

في غرداية، هذه المدينة الأَلفيّة التي شُيّدت في منطقة وادي ميزاب، وهي منطقة صحراوية قاسية المناخ، كانت مواجهة الحرّ والهجير معضلة المؤسسين الذين ابتدعوا، بالاعتماد على الطين، طريقة فريدة في خلق تكييف طبيعي للهواء دون التفريط بالإضاءة، وعملوا على تضييق الشوارع التي أصبحت بمثابة أروقة تفادياً لأشعة الشمس الحارقة.

هذه التقنيات المصاغة بجمالية مُدهشة جعلت لوكوربوزييه يصف غرداية بأنها "مدينة متلألئة". وأثمرت زيارته هذه عن تصميم كنيسة "نوتردام ديهو" في مقاطعة "رونشامب"، شرق فرنسا، التي تحاكي بهاء العمران الميزابي.


من مدينة القصبة ـ الجزائر


قبل تأثره بالعمارة الجزائرية كان لوكوربوزييه قد تأثر بتقاليد البناء التركي بعد أن وقف في اسطنبول على واقع غير ذلك الذي روّج له مثقفو الغرب آنذاك، وفاجأه نمط العمارة الفريد لهذه المدينة العتيقة، الذي يتميّز غالباً بباحة أو فناء يستقبل عدداً من الغرف المحيطة بها بحيث يساهم هذا التصميم في استغلال ملفت لضوء الشمس، وتأثر بها على غرار ما تشي به تصميماته الأولى.

لم يخلُ الأمر في مسيرة النحات والرسام من مرحلة استشراقية مبكرة، خاصة بعد أن درس أعمال أوجين ديلاكروا، أحد أقطاب الاستشراق في القرن التاسع عشر. فقد رسم لوكوربوزييه أيضاً لوحات تقترب في مضمونها ممّا تحمله المخيّلة الغربية التقليدية عن الشرق والحريم والنساء وأجواء الحمامات التركية، مثل عمله "امرأتان متقاربتان".

ولكن المعماري اصطدم بنظرته السطحيّة والفوقيّة وبالصور التي شكّلها قبل زيارة اسطنبول، وكان كتابه "رحلة إلى الشرق" توثيقاً لمشاهداته وتعبيراً عن هذه الصدمة الثقافية مع الكليشيهات الغربية عن الحياة في المشرق.

وصف أحد النقاد لوكوربوزييه بأنه "مصمّم متون معمارية" يعيش هاجس الاستطيقا. أمّا الدرس الفنيّ الذي أعطاه من غير قصد، فهو أن الأجدر بالمعماري الحقيقي صياغة رؤيةٍ جديدة لعلاقتنا بالبناء والعالم، عِوض تلك الرطانة العمرانية والوجوم الهندسي الذي نشاهده حولنا ونعيش فيه اليوم.

المساهمون