بول كلي: سخرية من معايير العصر

بول كلي: سخرية من معايير العصر

09 يونيو 2016
"القيروان"، 1914
+ الخط -

يستضيف "مركز جورج بومبيدو" في باريس، هذه الأيام، معرضاً استعادياً لـ بول كلي (1879- 1940). ويعدّ هذا المعرض الأكبر للفنان السويسري الألماني منذ عام 1969.

يضمّ المعرض 230 عملاً فنياً، اختار منظّموه توزيعها على سبعة أقسام تحمل عناوين مفصلية في مسيرة كلي الفنية. يبدأ الزائر بالتعرّف على بدايات الفنّان والتي يغلب عليها طابع السخرية في قسم حمل عنوان "البدايات الساخرة"، ثم يمرّ بأقسام تعرّف بعلاقة الفنان مع المدرستين التكعيبية والبنائية ومرحلة تدريسه في "مدرسة الباوهاوس" وتأثّره ببيكاسو، لينتهي أخيراً بقسمٍ تحت عنوان "سنوات الأزمة" والذي يحوي الأعمال الأخيرة التي نفّذها كلي في مسقط رأسه ومنفاه مدينة برن؛ العاصمة الإدارية لسويسرا.

ولد بول كلي في قرية تقع على مقربة من برن، لأمٍ سويسرية، وأبٍ ألماني يعملان في مجال الموسيقى. ورغم أن السلطات السويسرية سجّلته كألماني تبعاً لجنسية والده، إلا أن المؤرّخين يذكرونه على أنه واحد من أهم الفنانين السويسريين. علماً أنه، ولمفارقات القدر، لم ينل جنسية بلاده إلا بعد وفاته بأسبوع.

رغم موهبته الموسيقية وتمكنّه من العزف على آلة الكمان، إلا أنه لم يحترف فعلياً الموسيقى، مخالفاً بذلك رغبة والديه. ومع ذلك بقيت الموسيقى تلازمه طيلة حياته، فقد كان يعزف الموسيقى الكلاسيكية في الحفلات ليكسب منها رزقه في شبابه، كما تزوّج لاحقاً من عازفة البيانو الألمانية ليلي شتومبف. لذا لم يكن من الغريب أن تتضمّن كتاباته النقدية ومحاضراته في الفن والجمال تعبيرات مثل "تعددية أنغام الألوان" و"انسيابية درجة اللون".

العلاقة مع اللون متغيّرة في مسيرة كلي الفنية. ففي بداية احترافه الفني، كان الفنان يستخدم الألوان بنوعٍ من التقشّف ليختلف هذا لاحقاً ما بين عامي 1913 و1914 ويبدأ بإدراج ألوان صارخة في لوحاته كالأحمر والأصفر والأزرق، ويعود سبب هذا التغيير إلى تأثّره بتجربة معاصره الفنان الفرنسي روبير ديلوني، وأيضاً لزيارته إلى تونس التي شكّلت منعطفاً أساسياً في مساره الفني، حيث اكتشف هناك أهمية الضوء والقوّة الكامنة في الألوان. "لقد تملّكتني الألوان، أنا والألوان شيء واحد"، كما نقرأ في مذكّراته اليومية أثناء رحلته إلى تونس.

قوّة الألوان وخصوصية الضوء دفعتا كلي ليزور الشرق مرةً جديدة، لكن الوجهة هذه المرة نحو مصر. صحيح أن الفنان لم ينتج أعمالاً أثناء هذه الزيارة نهاية عام 1928 خلافاً لزيارة تونس، لكنّه عاد من هناك مسكوناً بسحر الكتابة الهيروغليفية، ومحملاً بانطباعات أسّست لعلاقة جديدة مع اللوحة، إذ طوّر مجموعة من الأعمال ذات طابع بنائي أسماها "صور في شرائط" ترتكز على تأليفات بصرية تصطفّ إلى جانب بعضها بشكل أفقي كما في عمل "طريق رئيسي وطرق فرعية".

يلتحق كلي بداية العشرينيات بـ "مدرسة الباوهاوس"، في مدينة فايمر الألمانية، ليعمل مدرّساً هناك. المدرسة التي حملت شعار "الفن والتقنية، وحدة جديدة" بحسب تعبير مؤسسها فالتر غروبيوس أتاحت لكلي، الفنان ذائع الصيت في تلك الفترة، أن يشارك نظرياته الخاصة في الجمال مع طلابه ويشرف في الوقت نفسه على محترفٍ لتجليد الكتب، ليتولى بعد ذلك إدارة ورش عمل الرسم على الزجاج والتصوير الزيتي على الجدران. بقي يعمل هناك حتى عام 1930، لينتقل بعدها ويعمل أستاذاً في "أكاديمية ديسلدورف" إلى أن طُرد منها مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933 بسبب ميوله اليسارية، لينتقل مع عائلته مجدّداً إلى برن في سويسرا.

في تلك الفترة، أنتج الفنان أعمالاً تعكس أجواء القلق والعنف التي خيّمت على ألمانيا في عهد النازية كما في عمل "رقصات تحت تأثير الخوف" عام 1938 التي تحمل طابعاً طفولياً.

وعن علاقته مع معاصره الفنان بابلو بيكاسو، والتي يخصّص لها المعرض حيّزاً هاماً، يقارن القائمون على المعرض بين أعمال الفنانين، مظهرين تأثيرات الفنان الإسباني على أعمال كلي.

لقد اكتشف المحتفى به فن بيكاسو لأول مرة في بداية احترافه الفني حوالي عام 1912، حيث رسم لوحة بعنوان "تكريم لبيكاسو" تظهر تأثيرات المدرسة التكعيبية جلية فيها وقد اعتبرها بعض النقّاد سخريةً من التكعيبية، ومرّة أخرى بعد زيارته إلى معرض استعادي لبيكاسو في زيورخ عام 1932 حيث اطلع على تجربة بيكاسو السوريالية، آنذاك، وخاصة لوحات بيكاسو الكبيرة التي تحوي عناصر نسائية.

يبدو فن بول كلي للوهلة الأولى سهلاً، فإنتاجه الفني الذي يزيد عن عشرة آلاف عمل يغلب عليه الحجم الصغير ومواضيعه غالباً ما تستحضر حالة طفولية، غير أن زيارة هذا المعرض الاستعادي المستمر حتى الأول من آب/أغسطس القادم، والتنقّل بين أقسامه يُظهر لنا غنى تجربته وفرادتها. لقد كان ببساطة ثائراً على العقائد والمعايير الفنية التي كان يؤمن بها ويمارسها معاصروه.

مغامرة في القيروان
أنتج بول كلي، في أسبوعين قضاهما في مدينة القيروان التونسية، 35 لوحةً مائية و15 رسماً آخر أثناء زيارته لها في نيسان/ إبريل 1914، وظلّت ملهمةً له في أعمال لاحقة، إذ يؤكد نقّاد أنه رسم أكثر من 20 عملاً آخر تعكس مغامرته التونسية، وكذلك قادته إلى التحرّر من الأشكال الهندسية وأصبح يرسم الألوان بشكل مجرد، وهو ما سجّله في مذكّراته، إذ كتب واصفاً إياها: "أسرني اللون. لا أحتاج إلى البحث عنه. إنّه لي إلى الأبد".



دلالات

المساهمون