عز الدين قنون: الغول والعنقاء و"الثوري" الوفي

عز الدين قنون: الغول والعنقاء و"الثوري" الوفي

16 يونيو 2014
مشهد من المسرحية
+ الخط -

لعلّ أوّل ما يلفت الانتباه في مسرحيات المخرج التونسي عز الدين قنون جنوح أغلبها إلى التجريب؛ التجريب بصفته خروجاً على كلّ ما استقرّ واستتبّ وبات سائداً.. واستشرافاً لأفق تعبيريّ وفنّي جديد.

ويتجلى ذلك واضحاً في عدول هذه الأعمال عن لغة المسرح التقليدية (حيث يتحوّل العرض إلى "محاكاة" لما يجري في الواقع الموضوعي لعلائق المجاورة التي تجمع بينهما) واستبدالها بلغة استعارية حديثة يستقلّ من خلالها العمل المسرحي بنفسه، ليصبح واقعاً تخييليّاً يحاور الواقع الموضوعي دون أن يذوب فيه. وإن كان المسرح التقليديّ مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمرجع- لا يكف عن الإيماء نحوه والإحالة عليه؛ فإنّ المسرح الحديث يعيد خلق الواقع، ويحوّله إلى منظومة من الرموز وإلى حشد من الصور والأشكال والأقنعة.

صحيح أنّ خشبة المسرح تشحن الأشياء والأجساد الواقفة عليها بطاقات دلاليّة جديدة، فتنأى بها عن وظائفها الاجتماعيّة المعروفة وتحوّلها إلى علامات، لكنّ المسرح التقليدي يطوّق هذه الدلالات، يحدّ من قوّتها، مذكّراً المتفرّج باستمرار أنّ ما يراه فوق الخشبة ليس إلا امتداداً للواقع؛ بينما يسعى المسرح الاستعاري إلى خلق فجوة بين عالم النصّ ونصّ العالم، كما يسعى إلى تحويل كلّ الأشياء التي تؤثث الخشبة إلى مصادر تخييل وإيحاء، فتصبح المسرحيّة، بكلّ عناصرها المتفاعلة، دالاّ أكبر يشكّل الجمهور دلالاته ومعانيه.

يتجلّى هذا النزوع الاستعاري في مجموعة من مسرحيات قنّون، وفي مسرحيته الأخيرة "غيلان" تحديداً التي عُرضت الأسبوع الماضي على "مسرح الحمراء" في العاصمة التونسية، وهي من تأليف ليلى طوبال، وتمثيل بحري الرحالي وريم الحمروني وبهرام علوي، وسيرين قنون.

في الميثيولوجيا العربية، تشير كلمة الغيلان (جمع غول) إلى "نوع من الشياطين يَظهر للناس في الفلاة، فَتَتَلَوَّن لهم في صور شتَّى وتغُولهم، أَي تضلِّلهم وتهلِكُهُم". أمّا في التراث الشعبي التونسي فهي تشير الى كائنات ليليّة غريبة تخيف الأطفال وتبعث الرعب في نفوسهم؛ لهذا كثيراً ما كانت مدار حكايات الآباء وأقاصيصهم.

لكنّ غيلان هذا العمل "لا تعيش في الكهوف، لا تظهر في الليل، لا تأكل الأطفال، لا تهدم البيوت، ولا تنفث النيران، الغيلان هنا آدميون وجوههم تتغيّر شكلاً ولوناً وتعبيراً...". فالعبارة جرت في هذه المسرحيّة مجرى الرمز للدلالة على صنف من البشر يشبه في وحشيته وجبروته وحش الأسطورة، فهو مثله يفترس البشر، ويستمرئ لحمهم، لا أخلاق تردعه ولا قوانين، يبسط سلطانه على الجميع ويوجّههم الوجهة التي يريد.

هذا الصنف من البشر ظهر فجأة بعد الثورة التونسية، ليحلّ محلّ السلطة القديمة، معيداً إنتاج سلطانها وجبروتها وكأنّ لا شيء قد تغيّر، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه في شكل ملهاة سوداء.

تبدو هذه المسرحية، عند الوهلة الأولى، وكأنها خمس مونودرامات متتابعة، من خلال كلّ مونودراما تسرد كلُّ شخصيّة حكايتها وتكشف عن أعماقها، وتبوحُ بمشاعرها. لكنّ هذه المونودرامات ليست في الواقعِ إلاّ فُصولاً داخل المسرحيّة، بمعنى أنها، على استقلالها الظاهر، متداخلة متشابكة.

هكذا تتحوّل المسرحيّة إلى إدانة قويّة للمجتمع التونسي بعد الثورة، إدانة لنخبه الثقافيّة والسياسية، تصل إلى ذروتها حين ترتفع أصوات أمّهات الشهداء المكلومات، ويرتفع أنين المغامرين الذين ألقوا بأنفسهم في البحر بحثاً عن جنّة موعودة.

لقد باتت كل الأحلام الجميلة التي قامت عليها الثورة مهدّدة بالسقوط، أحلام تحقيق الكرامة والعدالة وبناء دولة عصرية يتداول على قيادتها رجال ونساء ينتمون إلى أحزاب مختلفة؛ وظهر على حين غفلة مجتمع زائف، تحركه مصالح ضيقة ويقوده ساسة يتدافعون على الكراسي. هل فشلت الثورة؟

كلا، فكلّ ما في المسرحية دعوة إلى استئنافها، وإلى تحقيق أهدافها السياسيّة والأخلاقيّة. أما نهايتها فمصبوغة بنبرة حنين إلى أيّام الثورة، حين كانت روح التضامن تشدّ كلّ فئات المجتمع التونسي شدّ توافق وانسجام.

وفي حركة ارتداديّة تسترجع المسرحيّة الأحداث التي هزت البلاد التونسيّة، علماً أنها تنطلق، في استقرائها التّاريخ، من الحاضر، من اللحظة الراهنة، من التجربة الحيّة. ونقطة انطلاقها هذه ستحدّد، على نحو حاسم، تمثّلها للأحداث وتأويلها للوقائع وتوظيفها للشخصيّات التاريخيّة. فالتاريخ الذي تستحضره المسرحيّة مفعم بهواجس الحاضر، مثقل بهمومه. وهو، من هذه الناحية، يختلف اختلافاً بيّناً عن التاريخ الموضوعي. إنّه تاريخ مقروء من موقع معيّن في الحاضر من أجل غايات وأهداف تكمن في الحاضر.

اختار المخرج لأحداث مسرحيتِهِ خشبةً عارِيَةً، لا شيءَ فيها غير الكراسيٍ المتحركة يجلس عليها الممثلُونَ لِيعترِفُوا، ويبُوحُوا، ويُفصِحُوا عن غائرِ مشاعِرهم. هذا الفراغ هو الذي يجعل الممثلَ سيدَ الخشبَةِ دُونَ مُنازِعٍ يملأُ فراغَها بجسدِهِ وحركاتِهِ وصوتِهِ، وكأنّ المخرج أراد أن يستعيدَ درسَ جيرزي غروتوفسكي الذي اعتبر المسرحَ "ممثلاً ومُشاهدًا" في المقام الأول. فالفنّ الرابع، كما قال هذا الفنّان، قد يتخلّى عن الماكياج والأزياءِ، والمؤثرات الصوتيةِ والإضاءةِ... لكنّهُ لا يستطيعُ، بأيةِ حالٍ من الأحوالِ، أن يتخلّى عن ذيْنك العنصرين: الممثّل والمشاهد.. فهما أساس الفنّ المسرحي وجوهره العميق.

هذه الحقيقة هي التي جعلت المخرج قنّون يجنح إلى "المسرحِ الفقيرِ" يختبر إمكاناتِهِ الفنية والرمزية الكبيرة. ومن هذا المنطلق، يخلق جسدُ الممثلِ، في مسرحيته، كلّ العناصرِ السينوغرافية الأخرى، ويسطّر مساحة الخشبةِ، ويضع حدودَها. خشبة ليست جاهزةً سلفًاً، لأن المُمثِّلين هم الذين يصنعونها بأجسادهِم ويبتكرون عناصرهَا ويؤثثون فضاءها.

هكذا باتَ الجسدُ هو الذي يخلع معنى على الخشبة، هو الذي يبثّ الروح فيها، وهو الذي يجعلها "رمزاً" للحياةِ في التباسها وغموضِها. لكنَّ هذا لا يعني أنّ العلاقةَ بينَ الخشبةِ والعالم هي علاقةُ تماثلٍ وتجانُسٍ، بل هي علاقةُ تداخُلٍ وتفاعُل. فالخشبةُ ليست امتِداداً للواقعِ وإنَّما هي صياغة جديدة له، إعادة ابتكار لعناصره.

المساهمون