المتنبي.. الشعر حين يبرّر الجريمة

المتنبي.. الشعر حين يبرّر الجريمة

12 مايو 2018
جزء من حروفية لـ تقوى برنوسة/ ليبيا
+ الخط -

خانوا الأمير فجازاهم

قُل لِلدُمُستُقِ إنّ المُسلَمينَ لَكُم .. خانوا الأَميرَ فجازاهُم بما صنعوا
وجدتُموهُم نياماً في دمائِكُمُ .. كأَنَّ قتلاكمُ إيّاهُمُ فَجَعوا.
ضَعفى، تَعِفُّ الأَيادي عن مِثالِهِم .. من الأَعادي، وإن هَمّوا بهِم نزعوا
لا تَحسَبوا مَن أَسَرتُم كانَ ذا رمَقٍ .. فليسَ يأكُلُ إلّا الميِّتَ الضَبُعُ.
المتنبي

يبدو أن القصيدة وُضعت من أجل ترميمِ حالٍ كان صعباً ترميمه. فتحطمت القصيدة ولم يترمم الحال.

هذه قصيدة بات فيها الشعر ضحية ظرف كتابته، ضحية أن يورَّط الشعرُ بالتلفيق والتزييف. إنها قصيدة كتبت لتبرّر انكساراً حربياً، ولتسعى من أجل حفظ هيبة أميرٍ عائد من معركة خاسرة وقد خلف وراءه ضحايا، من جيشه، مغدورين، وحين لم يقوَ على إنقاذهم عمد إلى ما هو أتعس، إلى التشهير بهم. تكفّلت الأبيات الأربعة، المختارة هنا، بتحمّل نتائج الحيرة في تسويغ ما حصل لهؤلاء الجنود من جيش سيف الدولة وقد تُركوا لعدوهم فأُسروا وقتلوا.

في هذه الأبيات نواجه تعاسةَ أن يصار إلى تحويل الضحية مذنباً، أن يجري تحميله وزر التضحية به وخذلانه. هذه أبياتٌ تكشف، من حيث لم يقل المتنبي، عن جريمة ارتكبها الأمير وجيشه بحقِّ جنودٍ تمّت التضحيةُ بهم من قبل قائدهم، فنهض الشعر من ثمّ بمسؤولية تشويه سمعتهم. ما أبشع مظالم التاريخ، وما أحطَّ الشعر إذ يكون بوقاً ولهدف غير إنساني.

يأتي ابن المستوفي بكتابه (النظام في شرح شعر المتنبي) على ذكر تلك الواقعة، مستفيداً مما نقله أبو الفتح ابن جنّي عن المتنبي نفسه. بموجب هذه الرواية فإن المتنبي يصف الحادث لابن جنّي كالتالي: "لمّا هزم سيفُ الدولة الدمستقَ، وقتل أصحابَه، جاء المسلمون إلى القتلى يتخللونهم، وينظرون مَن كان فيه رمق قتلوه، قال: وكانوا يقولون: رميس رميس، ليوهموهم أنهم من الروم، فإذا تحرك أحدهم أجهزوا عليه. فبينا هم كذلك أكبَّ المشركون عليهم".

وفي (الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي) لابن جني تأتي الرواية نفسها، لكنها مزيدة بعبارة مهمة في هذا السياق:" حدّثني المتنبي، قال: لما هزم سيفُ الدولة الدمستق وقتل أصحابه، جاء المسلمون إلى القتلى يتخللونهم، وينظرون من كان به رمق قتلوه، فبينا هم كذلك أكب المشركون على المسلمين فقتلوهم، لاشتغال سيف الدولة عنهم". سنعود إلى أهمية الإشارة هنا لاشتغال سيف الدولة عنهم إنما بعد قليل.

هذه رواية واحدة تصف وجود جنود مسلمين بين القتلى الروم، ومن يمكن أن يكونوا جرحى بينهم، وما حصل منهم ولهم بعد ذلك. مصدر هذه الرواية هو المتنبي كما نقلها ابن جني صديقه الأوثق، وهي رواية مباشرة على لسان شاعر شهد الحادث، وكتب عنه قصيدة، وكان ممن يرافقون سيف الدولة في غزواته ومعاركه.

لكن هناك رواية أخرى مختلفة تأتي من مصدر آخر، غير مباشر، من أبي المرشد سليمان المعري بكتابه (تفسير أبيات المعاني)، إذ يقول: "قال الشيخ رحمه الله: يذكر مَن يدّعي علماً بغزوات سيف الدولة بن حمدان أن أصحابه في هذه الغزاة، وهي التي كانت تسمى غزاة المصيبة، مرّوا في هزيمتهم بمقتلةٍ من الروم، فظنوا أن أولئك القتلى قد تجاوزهم العدو، فنزلوا في ذلك الموضع ليستريحوا، فجاءت خيل الروم ووجدتهم على تلك الحال، فنالوا منهم المراد من قتل وأسر".

يضيف أبو المرشد في موضع آخر: "وروى الأحسائي عن علي بن عيسى الربعي أن أبا الطيب قال غبرت في تلك الليلة فرأيت جماعة من المسلمين قد ناموا بين قتلى الروم، من شدة الحال التي أصابتهم، ورأيت قوماً منهم يحرّكون القتلى فمَن وجدوا فيه رمقاً أماتوه".

هذه الرواية غير المباشرة تتضمن شقّين مختلفين؛ يكون الجنود المسلمون بموجب الشقّ الأول منهما منهزمين ولائذين بجثث قتلى الروم حتى اكتُشفوا، بعد ذلك، وقُتلوا وأُسروا من قبل جيش الروم. لا سند واضحاً لهذه الرواية، إنها تُنسب لـ "مَن يدّعي علماً بغزوات سيف الدولة"، بينما الشقّ الثاني يعود بالسند إلى المتنبي، وهي فعلاً رواية لا تختلف كثيراً عما أورده ابن جنّي عن أبي الطيب، لكنها تبدو مرتبكة بين أن يكون الجنود منهزمين وبين أن يكونوا، أو أن يكلفوا أنفسهم، بمهمة قتل الجرحى من جنود الروم.

هذه روايات في معظمها لا تدين الجنود الذين قُتلوا على أيدي الروم، باستثناء الرواية مجهولة النسب التي يوردها أبو المرشد المعري. وهذه الرواية واقعاً ليست مجهولة النسب. ليس صعباً أن نجد لها أثراً في الشعر. أبيات أبي الطيب المتنبي الأربعة تكفي لتكون مصدراً لتلك الرواية، لنقرأ الأبيات ولنقف على مختلف شروحها.

....

يتوجّه الخطاب في البيت الأول من هذه الأبيات الأربعة إلى الدُمُستُقِ، وهو تعريب لتسمية دومستيكوس، باليونانية، لقب عسكري، وأعلى رتبة عسكرية، في الجيش البيزنطي. يريد الشاعر في هذا الخطاب النَيل من قيمة المتحقّق بالنسبة لجيش العدو فلا يتحقق له ذلك إلا من خلال التعريض بالجنود المسلمين القتلى من جانب ومن خلال التعبير عن سلوك إجرامي لسيف الدولة، وهو سلوك غير متوقع من أي قائد عسكري أو حاكم. ينتقم الحاكم بموجب هذا البيت من جند، لنفترض أنهم متخاذلون فعلا، فيسلمهم لعدوه.

العدو هو من ينفذ العقوبة بحق (المتخاذل). يقول ابن جني، الذي أوردنا في مستهل المقال إفادة المتنبي له عن الجنود الذين كانوا يقومون بمهمة قتل جرحى العدو، في معرض شرحه هذا البيت: "المُسلَمون (بفتح اللام): من خالف سيف الدولة من المسلِمين، فكأنه أسلمهم (لعدوه) لمّا لم يرشدوا، لمخالفتهم إياه، فصار ذلك كالعقوبة منه لهم".

يوافق شرّاح آخرون مثل (ابن سيده، والواحدي، والبرقوقي، وسواهم) ابن جني ويعيدون شرحه للبيت، لم يتساءل أحد من هؤلاء عن دواعي هذا التسليم، لم يفكر أحد بخذلان الجنود القتلى، لم ينشغل أحد بما إذا كانت (الرواية) الشعرية ملفّقة في القل قياساً بما سمعه ابن جني نفسه من صديقة الشاعر.

حتى أن الأفليلي، وهو من شراح المتنبي، يستعيد إفادة المتنبي بشيء من التحوير ليجعلها مناسِبة للشرح (المتفق) عليه لهذا البيت، فيخفق في ذلك، يقول الأفليلي في شرحه: "كان أبو الطيب قد اجتاز في الليل الموضع الذي قتل فيه سيف الدولة من قتله من أسرى الروم، وكان هنالك فيها من المسلمين قوم؛ منهم من أضجعه النوم والتعب، ومنهم من كان يتتبع القتلى فيجهز على من كان فيه منهم رمق، وقد تقدم سيف الدولة، وأدرك العدو هذه الطائفة، فأوقع بهم، فقتل فيهم وأسر، فلذلك قال أبو الطيب: قل للدمستق: إن الذين أسلمهم لكم سيف الدولة خانوا الإله بعصيانهم لأميرهم".

لكن ابن المستوفي في (النظام) يستعيد أيضاً شرح ابن جني للبيت، غير أنه ينقل رأي أبي العلاء المعري، الأكثر حرية، والأشد إخلاصاً لنزعته الإنسانية، فيقول: "وقال أبو العلاء: (المسلمون) الذين أسلموا إليكم فقتلتموهم وأسرتموهم. وادعى على القوم أنهم خانوا الأمير فجازاهم على خيانتهم بإسلامهم إلى العدو. وهذا من الافتراء الذي يحسن أمر الممدوح، ويقام به العذر في الهزيمة. ولعل الذين أسلموا للروم كانوا أعظم الجيش، وأشدهم بعدا من الخيانة".

التبريزي، هو الآخر، لم يقف طائعاً أمام الرواية الرسمية كما يقدمها الشعر، إنه يمضي إلى أبعد مما مضى إليه المعري، مفسراً ومقدما تصورا آخر لداعي هذا التلفيق الشعري. لقد جاء في شرحه: "وادّعى على القوم أنهم خانوا الأمير فجازاهم على خيانتهم بإسلامهم إلى العدوّ. وهذا من الافتراء الذي يحسن أمر الممدوح، ويقام به العذر في الهزيمة. ولعل الذين أسلموا للروم كانوا أعظم الجيش نصيحة وأشدهم بعداً من الخيانة.

البيت الثاني مضحك فعلاً، ولكنه بتعبير المتنبي نفسه ضحك كالبكاء، فبرغم مأساوية هذا البيت وفظاعة مشهد جنود لائذين من الموت بدماء قتلى أعدائهم، ومحتمين من الأعداء بجثث الأعداء، إلا أنه يظل مضحكاً من حيث انصراف الشاعر إلى أن يهجو قتلاه لعدوه.

....

ومن غير الواضح ما إذا كان أبو العباس المهلبي جاداً أم هازلاً، في كتابه (المآخذ على شرح التبريزي) الموسوم بالموضح، وهو يختم شرحه لهذا البيت وما بعده بقول التبريزي:" وهذا أحسن ما يعتذر به (الشاعر) لسيف الدولة وقد كُسر وأُسر من عسكره من أسر".

ولعل من مهازل الشرّاح انشغالهم، وهم يشرحون البيت الرابع، بالضبع، وبما إذا كان يأكل الميت حصراً أم الميت والحي. يقول المتنبي بهذا البيت:
لا تَحسَبوا مَن أَسَرتُم كانَ ذا رمَقٍ .. فليسَ يأكُلُ إلّا الميِّتَ الضَبُعُ.
لنقف عند ما انشغل به ابن المستوفي في النظام وهو يشرح البيت ويشير إلى (خطأ) المتنبي:"عاب عليه ابن وكيع هذا البيت. وقال: كيف أطلق على الضبع هذا، وإنها تأكل الميتة؟ كأنه لم يقرأ كتاب الوحوش، ولم يسمع وصفها في أشعار العرب، لأن الضبع تخنق عشراً من الغنم حتى تأخذ واحدة، وهي من أخبث السباع على الغنم". بينما ينعت البرقوقي ضحايا تلك الحادثة بـ "أموات من الجبن والخوف" حيث يعيب الشاعر على العدو قتل الجبان الخائف.

ربما هي المرة الأولى التي نقف فيها عند شعر يريد الشاعر به إغاظة عدوه فيهجو قتلى من جنده. لماذا حصل ذلك؟ كيف تورط أبو الطيب بهذه التعاسة الشعرية اللاإنسانية؟ هذا ما نأمل الوقوف عليه بمقال تالٍ.

المساهمون