هموم شعرية: مع مصطفى قُصقصي

هموم شعرية: مع مصطفى قُصقصي

23 اغسطس 2019
(مصطفى قُصقصي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته، ولا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر وقراءته. "الشعر العربي الآن يكتب القضايا الكبرى بلغة عاديّة وبنفس مأسوي وغير تبشيري كما يليق بالشعر"، يقول الشاعر الفلسطيني لـ"العربي الجديد".


■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟

- يحرّك هذا السؤال هواجس أدبية ونرجسيّة متواشجة لدى الكاتب بشكل عام. كلّ قارئ هو كائن متخيّل مخلوق من الشوق والانتظار والأُلفة الملتبسة. أي هو مزيج من قارئ تريده وآخر تخشاه وآخر تجهله. أحبّ أن يكون لنصوصي قرّاء عابرون وصامتون وقرّاء شغوفون بالشعر ومتفاعلون مع ما تقترحه من مرايا.

أحبّ أن أتخيّل أن القارئ، بما في ذلك قارئي إنْ توفّر، يستغيث بالشعر عندما تنهار اللغة من حوله. لا أعتقد أنّه يبحث عن الشعر بقدر ما يصطدم به فتشجّ مخيلته وتسيل صورُها أو ينكسر قلبه بالمعنى الإنسانيّ النبيل للكلمة فيتسع ويرى. قارئ يقترب من الشعر دون كلفة أو تكلّف، يقرأه بنهمٍ شجيّ أحياناً ودون انتباه أحياناً أُخرى، قارئ يلجأ إلى الشعر بتوجّس ليصعقه الاكتشاف أنّه كان بأشدّ الحاجة إليه دون أن يدري.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟

- سؤال الناشر في عالمنا العربيّ هو سؤال شائك وذو شجون. لا أعتقد أنّه يمكن الحديث عن علاقات مع الناشرين بالمفهوم الكلاسيكي المعمول به في الغرب. ولكوني مقلاًّ بالنشر، تنقصني المعلومات الكافية لتشخيص هذه العلاقة دون الوقوع في النقد أو المديح المجانيّ. هناك مشاريع لدور نشر جديدة وأخرى عريقة ومجدِّدة جديرة بالثناء.

أحلم بناشر صاحب مشروع جماليّ وأدبيّ خلّاق، يرى في نشر الشعر وتعميمه مشروع حياة ومقاومة تحتيّة هادئة لكلّ أشكال العنف والخوف والنفي.


■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟

- حضور الشعر في المجلات والجرائد والمواقع صحّي ضروريّ، وخاصّةً في ظلّ ثقافة الصورة السائدة... مضادّ حيويّ للذكورية وللفظاظة ولرعب النظر إلى الأعماق. خلافاً للنبرة الجنائزية الغالبة في الحديث عن الشعر، والمنهمكة في توديع ما كانت عليه مكانته في الثقافة العربية وشيوع مقولة "زمن الرواية". أعتقد أنّ الشعر وإن خَفَت صوتُه، وهذا أمر محمود، ما زال حيّاً يرزق، وما زالت أزاميله الدقيقة تعمل بالدقّة والقسوة الرحيمة المطلوبة في تشريح الذات العربية وتنظيف نوافذها المغبرّة وفتحها على العالم.


■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟

- غالباً أعيد نشر نصوصي الشعرية على الفيسبوك، أشعر بأن ذلك يمنحها حياةً جديدة وإن كانت هشّة وسريعة الذوبان في الطنين "التواصلي". رغم الخوف المبرَّر من أن تفسدَ شهيةُ وسهولةُ النشر الشعرَ وتلوّثه بكميات ضارّة من الكيتش واللغة "الجميلة" الميّتة. أعتقد أن الظاهرة إيجابية في مجملها مع الأخذ بالاعتبار المحاذير المعروفة. قد يُعزّز النشر الإلكتروني ديموقراطية النشر ويروّج لـ "قراءة استهلاكية"، على حساب طقوس كتابة وقراءة بطيئة ووحيدة بالضرورة، لكنّه يتيح الاقتراب من الشعر دون وساطة نخبوية، ويكثّف، في المقابل، النشر والإحجامَ عنه، كخيار حرية ومسؤولية.

استدرَجت وسائل التواصل قراّءَ جدداً إلى الشعر وأقصت آخرين لم يتصالحوا مع التكنولوجيا، ومع طبيعتها الاقتحامية الباردة، وفي كلّ الأحوال لم تعد مجرّد وسائل "بريئة"، بل بدأت تحضر في فعل الكتابة وتؤثّر عليه بالمعنى الأوسع للتكنولوجيا، التي تستعمر المخيّلة وتتسيّد العالم وتطمح إلى "استعباد" الكينونة. تنفذ التكنولوجيا إلى كلّ مسامّ الكينونة في العالم وتصقل شكلها وجوهرها، وبالتالي شكل وجوهر الكتابة بشكل عام والكتابة الشعرية بشكل خاص. قد يبدو الشعر نقيض التكنولوجيا لكنه في الحقيقة صديق سرّي لها، لأنّه في تعبيراته الأصفى والأقوى، يدلّها على أخطائها ويقاوم طغيانها ويحدّ من شهوة التدمير التي تسكنها. يظلّ الشعر المحاولة الأفضل والأجمل، رغم كونها محكومة بالفشل، لردم الهوّة التي تفغرها التكنولوجيا في الوجود.

لكن ربما أصبح كلّ ذلك كلاماً نافلاً تمّ تجاوزُه، لا يساورني شكّ بقدرة الشعر على الصمود أمام جيوش التكنولوجيا الذكية والغبية على حدّ سواء، ومناورتها وتجييرها لصالحه، وذلك لسبب بسيط وكبير: الشعر، بتجلياته المختلفة لا الكتابية فحسب، غريزة بقائية أساسية. هو علّة أولى.


■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟

- يمكن أن نفترض أكثر من قارئ. قارئ كـ "حامل الهوى" في البيت الشعريّ القديم لأبي نواس، "تعِب، يستخفّه الطرب"، يحمل ذاكرة غنائية لا تنضب، ينوء أحياناً بحملها، ويستجدي أحياناً موسيقاها، يريد من الشعر أن يطربَه وإن عذّبَه، ثمّ هناك قارئ يطلب من الشعر أن يعزّيه وأن يحميه من "القيل والقال" الشائع، وقارئ يخرج إلى الشعر شاهراً سيفه الأيديولوجي، وآخر لا يتردّد في نزع قناع الكلام العادي عن روحه وكشفها تماماً لطعنات السؤال والجمال التي يسدّدها إليه نصّ شعري.


■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر قراءة من الشعر العربي، ولماذا؟

- لا أدري، قد يفعل كثير من الشعر المترجَم ما على الشعر أن يفعله دون ادّعاء: أن يترجم العالم والنفس دون كلل، ودون أمل. شعر يتخلّى عن العناق الخانق للّغة ويحلّق بالأسئلة بعيداً حيث لا جواب سوى سؤال آخر. وينجح، كشاعر شيمبورسكا الذي يقرأ شعره للمكفوفين، في "امتحان العتمة" حيث "كلّ جملة تعتمد على نفسها، بلا أضواء، بلا ألوان".


■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟

- أعتقد أنّ شعراً عربياً جديداً مدهشاً قيد الكتابة الآن، بتواطؤ إبداعيّ عميق للشاعر مع عريه الإنساني ووعيه الوجودي الحادّ... شعراً يكتب القضايا الكبرى كالحب والحرب والحرية والسلام بلغة عاديّة وبنفس مأسوي وغير تبشيري كما يليق بالشعر أن يكون... شعراً ينتظر أو لا ينتظر حركة نقدية ترشده وتحتفي به. شعراً بلا مؤسّسات. ربما يكمن ضعفه الأساسي في ارتباكه المزمِن أمام سلطة الإرث الموسيقي الذي ينحدر منه.


■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟

- الماغوط، لحرارة وأصالة يأسه.


■ ما الذي تتمنّاه للشعر العربي؟

- أحلم بصحف يومية تضع الشعر في الصفحة الأولى كخبر رئيسي.


بطاقة

شاعر من مواليد مدينة شفاعمرو في فلسطين المحتلة. محاضرٌ ومعالِج نفسيّ وباحث يهتمّ بالخصوص بدراسة الآثار النفسية الاجتماعية للنكبة. حصل قُصقصي على الدكتوراه من جامعة إيسّيكس في بريطانيا. صدرت مجموعته الشعرية الثانية "في هجاء الأمل" (2016)، وتُرجمت نصوصه إلى الإنكليزية والإيطالية والتركية، وهو يقيم بين فلسطين وإيطاليا، حيث يكتب ويترجم بين اللغتين العربية والإيطالية.

المساهمون