صلاح فائق.. غابة راقصة وكرنفال

صلاح فائق.. غابة راقصة وكرنفال

22 اغسطس 2016
(إسماعيل فتّاح/ العراق)
+ الخط -

يقدّم الشاعر العراقي، صلاح فائق (1945)، في مجموعته الجديدة "قصائد مبعثرة"، يقول إنه جمعها من ثنايا بيته الذي هدّمه زلزال ضرب، العام الماضي، الجزيرة الفيليبينية التي يعيش فيها. باستثناء هذه الملاحظة الموجّهة، كما يبدو، إلى قارئ محتمَل قد يتساءل عن عادية العنوان، فإن الشاعر قلّما يعطي بالاً إلى متلقّي نصوصه، إذ يبدو مشغولاً، في قصيدته، بمحادثة حيوانات والدفاع عنها، وبتعقّب نباتات وكواكب وجيران وأرامل وطالباتٍ، وبشحذ مديته، أو بدهن أطرافه بالزيت، وبحمل أرغفة خبز إلى عمّال ميناء مجاور.

على أي حال، تبقى هذه عوالم صاحب "تلك البلاد" (1978)، التي لا بدّ لقارئ يألف تجربتَه أن يعرفها. فالعقد الذي أبرمه فائق منذ زمن طويل مع متلقّيه، يحضر في مجموعته الجديدة الصادرة عن "دار مخطوطات" تحت صيغة لم تتغيّر كثيراً: "حين أكتب، لا يعنيني الذي يكتب ومن سيقرأه. ما يهمّ هو من يتكلّم في داخله".

أمّا هويّة هذا الذي يتكلّم في الداخل، فيشي بها أحد نصوص المجموعة:

"هناك شخص ما في داخلي
يطالبني، كل يوم، بكتابة قصيدة
أكتبها، يعود في اليوم الثاني
ويلحّ أكثر
بهدوء آكل الآن من رغيف الأمس
وأفكّر ماذا أفعل".

تقترح قصيدة فائق نفسها بوصفها حدثاً يومياً ملحّاً، بل ضرورياً إلى حدّ ما. ليس فقط بالنسبة إلى الشاعر، الذي لا نشكّ في مواظبته على الكتابة على نحو يومي أو يكاد، ولا إلى "مواضيع" قصائده، التي لا ينتمي جميعها إلى قاموس اليومي، بل بالنسبة إلى طبيعة القصيدة نفسها؛ إذ تبدو قصائده أشبه باحتفال أو عرض يمتدّ مسرحه من الفيليبين إلى كركوك، ومنها إلى لندن، ويحتاج، كي يضمن استمراره، إلى بروفات مستمرة، تحفظ لشخوصه وعناصره الكثيرة لياقتها وجاهزيتها المطلوبتين، عبر التمرين المتواصل.

يومية القصيدة وانتظامها هما أساس هذه البروفات التي تتيح للشاعر الاعتناء بهذا الكرنفال الضخم الذي يديره.. في مخيلته. كرنفال يجمع، في نقطة التقاءٍ هي القصيدة، بين المعيش والمتخيّل، بين الواقعي والفانتازي، على نحو يختلط فيه، حدّ التماهي التامّ، هذا بذاك:

"قضيت عمري في هذه الجزر
ومدنها الملوّثة، تعلّمتُ حبّ مزارع الرز
تعوّدتُ على السمك المجفف وخداع الفتيات
فجأة تغيرتُ حين ظهر، ذات ظهيرة
بوذا مع نمرٍ عند المحيط
كانا يتحاوران حول الصمتِ وممالكه الشاسعة
مقدرةِ الأشجار على الغناء
والقواربِ على الإبحار وحدها ثم جاءني في منامي، نشوانَ ويبتسمُ
لم يكن يرتجفُ من البرد، أعطاني برتقالة وملأ جيوبي بحصى ملوّنة
عندما استيقظت وجدتها في كفّي، نظيفة
وليّنة، التهمت بعضها في فطوري".

الحلم، الذي تُحيل إليه نهاية القصيدة يشكّل إحدى نقاط انطلاق التعبير الشعري عند صلاح فائق، الذي لم يسبق له أن نفى علاقة قصيدته الوطيدة بالسورياليين. حلم يتمادى أحياناً، ويخرج من الحيّز الضيق الذي يجمعه بالنوم، ليندسّ في نهار الشاعر، متحوّلاً، تحت ضوء الشمس، إلى رؤى خفيفة، إلى عيش بين الصحو والغفو:

"عند الفجر، حاملاً رزمةً من خبز الحكومة
في الطريق يقبلُ عليكَ جدولٌ ويسأل عن
سبب هجران قواربَ عند الشاطئ، فتحتار ولا تجيبُ
ثم تفركُ جبينكَ بكفك اليسرى".
وكذلك: "سأخرج بعد قليل إلى البحر، لأتنشّق هواءً مالحاً
وأدوس على قواقع خفيفة
أمس كنت هنا، مضطجعاً وأعدّ نجوم منطقتي
حين ظهر نسيمٌ جميل من بين الأمواج
واتجه إلى مأوى للعجائز في جزيرتي
احتراماً له تنحيتُ جانباً، ولم أشغله بأي سؤال".

ما يستحق الإشارة في قصيدة فائق هو تميّز لحظتها الشعرية، أو بعبارة أخرى، اختلاف مفهومها للشعر، الذي تنبني انطلاقاً منه، عن مفاهيم أخرى شائعة عربياً. فالقصيدة عنده، تعبير عن خصوصية التجربة الشخصية والمخيال والجمال. وهي احتفاء بالطرافة، والصراحة، وحتى بالصعلكة، من دون إغفال لدور الآخر، إنساناً كان أم حيواناً، الذي يعدّ حضوره، بلحمه وعظمه، أساسياً (لطرد الوحشة).

كلّ هذه الصفات تغيب، أو يقل حضورها بشكل ملحوظ في شعرنا السائد. وهو ما يجعل من نصّ فائق دليلاً يقود قارئه، في أغلب الأحيان، إلى مناطق شعرية جديدة وأقل ابتذالاً، "في أغلب الأحيان"، لأن الأمر لا يخلو من سطور أو نصوص عادية. وهو استثناء لا يدعو إلى الدهشة في مجموعة شعرية من 300 صفحة. وعلى أيّ حال، فصاحب "دببة في مأتم" (2013) على علم بذلك:

"أتكهن بمصير قصائدي، أو بعضها
لن تنال إعجاب أحد
هذا جيد".

المساهمون