شيرين صيقلي: الندرة والاقتصاد في فلسطين قبل النكبة

شيرين صيقلي: الندرة والاقتصاد في فلسطين قبل النكبة

20 مايو 2016
الصورة على غلاف الكتاب
+ الخط -

تتناول الباحثة الفلسطينية شيرين صيقلي في كتابها "أصحاب رؤوس الأموال: الندرة والاقتصاد في فلسطين في فترة الانتداب البريطاني" Men of Capital: Scarcity and Economy in Mandate Palestine الصادر عن "منشورات جامعة ستانفورد" في الولايات المتحدة، موضوع الاقتصاد الفلسطيني في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.

وتركّز على طبقة جديدة تشكّلت من أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينيين، والذين لعبوا لاحقاً دوراً رئيسياً في تشكيل وبناء الاقتصادات العربية. كما تعالج في كتابها نظرة هؤلاء الرجال لدورهم الاقتصادي وتربطه بالسياسي والثقافي في مجتمعهم الفلسطيني خاصة والعربي عامة، إذ لم تتشكّل تلك الطبقة المتوسطة من التجّار والمستثمرين من أصحاب رؤوس الأموال فقط، بل ضمّت المحامين والأطباء وحتى المدرّسين.

تشير صيقلي، في حديث إلى "العربي الجديد" من نيويورك، إلى أن هذه الطبقة الفلسطينية من أصحاب رؤوس الأموال، لم تكن من العائلات المالكة التقليدية، بل تشكّلت في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية. ولعبت تلك الطبقة، قبل النكبة وبعدها بشكل خاص، دوراً مهماً في تكوين مؤسسات اقتصادية وغير اقتصادية عربية في الخليج ولبنان وسورية والعراق ومصر.

شيرين صيقلي

وتعطي أمثلة لبعض تلك الأسماء التي يتناول الكتاب إنجازاتها؛ ومن بينها: سابا والقطّان وصبّاغ وشومان. وكان هؤلاء قد أسّسوا شركات عديدة قبل النكبة بما فيها "البنك العربي" وشركة "طيران الشرق الأوسط" وغيرها، لتنتقل تلك المعرفة ورؤوس الأموال بعد النكبة إلى العديد من العواصم العربية.

تعتمد صيقلي، التي تعمل أستاذة في قسم التاريخ في جامعة "سانتا باربارا" في كاليفورنيا، على مصادر ووثائق مختلفة ومن بينها "مجلة الاقتصاديات العربية"، والتي صدرت في يافا ما بين الأعوام 1935 و1937. وكان قد أسّسها وموّلها الفلسطيني فؤاد سابا. وكان سابا صاحب أول مؤسسة عربية لتدقيق الحسابات في "الشرق الأوسط"، كما كان أول من حصل على رخصة حكومية كمدقّق حسابات قانوني في العشرينيات من القرن الماضي. كان لشركته "سابا وشركاؤهم" فروع في مدن فلسطينية وعربية من بينها يافا وحيفا والقدس ونابلس ودمشق وبيروت وبغداد. وبعد النكبة أصبح لها فروع في أغلب العواصم العربية.

وتلفت صيقلي الانتباه إلى أن المجلة ترجمت الكثير من المواضيع عن مجلة الـ "ذي إيكونوميست" البريطانية، إلا أنّ إصداراتها لم تقتصر على الترجمات فقط، بل واكبت ما كان يحدث على الساحة الاقتصادية في مناطق عدّة من بينها مصر. كما تناولت المجلة مواضيع تتعلق بأفكار مختلفة للفيلسوف آدم سميث وماركس وابن خلدون والغزالي، على سبيل المثال لا الحصر. وتنوّه صيقلي أن علينا عند النظر إلى تلك الطبقة أن نراها في سياق مشروع عروبي ذي توجّه اقتصادي رأسمالي، يحاول أن يدعم الاقتصاد الفلسطيني، والاقتصاد القومي.

المثير، كما تقول صيقلي، أن "مجلة الاقتصاديات العربية" لم تتناول ما يحدث حولها من أمور سياسية كالثورة، على الرغم من أن صاحبها ورئيس تحريرها، فؤاد سابا، كان من المموّلين والداعمين لها. وتشير في هذا الصدد إلى أن ذلك يعود بشكل جزئي إلى رؤية هؤلاء لدورهم في المجتمع بالدرجة الأولى كرجال اقتصاد وليس رجال سياسة، والتعامل مع الموضوعين بشكل منفصل. لقد كان هاجس تلك الطبقة خلق استقرار اقتصادي في فلسطين، إلا أن هذا الهاجس، على ما يبدو، جاء على حساب قربهم من وعلاقتهم بشرائح المجتمع الأوسع كالفلاحين والبدو.

رأى بعضهم أن المقاطعة التجارية للمستعمر في فلسطين (الاستعمار الصهيوني والاستعمار البريطاني) في ثورة عام 1936، ستضرّ بالمصلحة العامة الفلسطينية وتؤدي إلى عدم استقرار للاقتصاد الفلسطيني. وتنوّه صيقلي إلى أن هذه الطبقة، وعلى الرغم من تأثّرها بالغرب، كانت ترى نفسها وأفكارها كجزء من تراث وفكر عربي أصيل.

اجتماعياً، وعلى الرغم من تركيز المجلة وحلقة الراديو الخاصة بالتدبير المنزلي، والذي كان يُنظر إليه كجزء من التدبير الاقتصادي القومي، على تعليم المرأة ودورها "العصري"، إلا أن هذا التركيز كان محافظاً في شكله ومضمونه، حيث ألقى المسؤولية الكاملة على المرأة أو "المرأة الخارقة" إن صح التعبير. فيجب أن يكون عندها ساعة في كل غرفة لضبط الوقت، وعليها تدبير أمور المنزل المعيشية كما الاقتصادية. كما يتوجب عليها أن تكون قارئة ومطّلعة وغير مبذّرة وجذّابة. وتقع عليها المسؤولية كي لا يخونها زوجها. ولم تكن هذه النصائح تسدى للنساء فقط عبر أثير الراديو، بل طُبعت تلك الحلقات الخاصة بالتدبير المنزلي في المجلة الاقتصادية كذلك.

وتلفت صيقلي كذلك إلى اغتراب تلك الطبقة عن ذاتها "الأخرى"، أي الفلاح والعامل الفلسطيني. على سبيل المثال، في أحد البرامج ينبّه المذيع إلى ضرورة عدم السماح للخدم والعاملين في المنزل، وهم فلسطينيون كذلك، بالاستماع إلى الراديو كي لا تؤثر على عقولهم تلك الأفكار المتداولة عن حريّات العمّال وغيرها.

وتضيف صيقلي في هذا السياق "لقد حاولت أن أفهم من خلال بحثي كيف تفهم هذه الطبقة الاقتصاد والدور الذي يجب أن تلعبه". وتنبّه كذلك إلى مسألة "الهوس بالحسبة التي بدأت تأخذ حيزاً مهماً في تدبير الاقتصاد القومي عامة، بحيث يعتقد المؤمنون بهذه النظريات بأن "التقدّم" في المجتمعات يمكن قياسه ومتابعته بعدة طرق من بينها قياس مسألة التدبير المنزلي كذلك".

وفي الحديث عن "النهضة العربية"، ترى صيقلي أنه "لا يمكننا أن نفهم النهضة كأرشيف إستراتيجي من دون أن نعالج الفكر الاقتصادي بجدية ومعنى تاريخه، حيث أن النهضة لم تكن مشروعاً أدبياً وثقافياً فقط، بل هي أساساً نهضة اقتصادية حاولت التعامل مع أمور جمّة بما فيها الملكية الخاصة والاستثمارات وغيرها".

تشير صيقلي إلى ضرورة بحث تاريخ فلسطين الاقتصادي قبل النكبة، بشكل مختلف لفهم الكثير من الأمور اليوم. كما من الضروري التعامل مع التاريخ الفلسطيني بشكل نقدي. وتؤكد أن يكون هذا التناول بمنأى عن المقارنة بالمستعمر الصهيوني، فهذا الأخير يجب مقارنته بالمستعمر البريطاني ومشروعه، وليس الفلسطيني.

تحاول صيقلي في كتابها تقديم قراءة بديلة لفسيفساء تاريخ فلسطين قبل النكبة. وعلى الرغم من تركيز الكتاب على الشقّ الاقتصادي من هذا التاريخ إلا أنه ينطلق من الضرورة بربط الاقتصاد بالسياسي والثقافي والاجتماعي من أجل فهم أفضل ليس فقط لما حدث آنذاك، بل لما يحدث اليوم على الساحتين الفلسطينية والعربية.

المساهمون