"فيوكوأمّاري": الوثائقيّ في خدمة السينما

"فيوكوأمّاري": الوثائقيّ في خدمة السينما

26 سبتمبر 2016
(من الفيلم)
+ الخط -

لن يكون سؤال الهجرات المتتالية إلى القارة الأوروبية، عبر المدينة الساحلية الإيطالية "لامبادوزا"، وحيداً في الفيلم الوثائقي "فوكوآمّاري، نار في البحر"، للإيطالي الأميركي جيانفرانكو روسي، (مواليد أريتريا، 1964). ولن تكون جائزة "الدبّ الذهبي"، التي نالها في الدورة الـ 66 (11 ـ 21 شباط/ فبراير 2016) لـ "مهرجان برلين السينمائي الدولي"، سبباً وحيداً لمتعةِ مُشاهدةٍ سينمائية، تمزج بين عالمين متناقضين تماماً في سلوكهما اليومي، رغم إقامتهما معاً في جغرافيا واحدة.

التنوّع سمة حياتية، تتّخذ موقعاً أساسياً في البناء الدرامي للفيلم. الجائزة إضافة، لن تُلغي حيوية السياق الحكائيّ، الموزّع على شخصيات مختلفة تمتلك هواجس عديدة، وتعيش بأشكالٍ مختلفة. هذا كلّه جزءٌ من لعبة الإغواء البصري لفيلمٍ وثائقي يغوص في أعماق جزيرة صغيرة (المساحة: 20.2 كلم مربعاً)، تتحوّل سريعاً إلى حيّز فاعل في المشهد الدوليّ، بسبب قربها الجغرافيّ من شمال أفريقيا (167 كلم من تونس، و355 كلم من ليبيا)، وبسبب كونها "أول موطئ قدم" لعشرات آلاف الهاربين من جحيم أوطانهم، في أفريقيا وآسيا، ذلك أن الفيلم انعكاس لنبض الحياة في الجزيرة، ولمشاغل أبنائها (أقلّ من 6 آلاف) التي تشبه مشاغل ملايين البشر في أنحاء مختلفة من العالم، ولمعنى أن تكون الجزيرة نفسها ممراً لأناسٍ، يريدون حدّاً أدنى من سلامٍ وطمأنينة، وأمنٍ اجتماعيّ، وحسٍّ إنساني. وفي الوقت نفسه، يُعتَبَر الفيلم ترجمة عملية لمعنى النتاج الوثائقي السينمائيّ، الذي يسرد الحكايات، كأنه يستعير من الروائي الطويل مفردات وأنماطاً وتقنيات، والذي يكشف خفايا وحالات، من دون أن ينزلق في فَخّ التحقيق التلفزيوني.

بهذا المعنى، فإن للسينما حضوراً، إنْ لم تكن هي الحضور الفعليّ للفيلم، أي أن أدوات التعبير الجمالي، المصنوعة بتقنيات السرد والتوليف والتلصّص البصري في أعماق الفرد والبيئة والاجتماع المحليّ، تجعل "فيوكوآمّاري" نموذجاً يُحتذى به في أن تكون اللغة السينمائية متساوية والمادة المختارة. فالكاميرا، التي تكتفي بما تلتقطه عدستها من وجوه وانفعالات ومسارات ومناخات وأمكنة طبيعية وعادية، بالإضافة إلى تفاصيل يومية لسكّان الجزيرة ـ الممثَّلين بعائلةٍ مؤلّفةٍ من عجوزين وابنهما وحفيدهما، بالإضافة إلى طبيب ومُقدِّم برنامج موسيقي ـ غنائي إذاعيّ، من دون تناسي رجال الشرطة الذين يستقبلون الوافدين الجدد إلى جزيرتهم ـ تغوص (الكاميرا) في تشعّبات التناقض الحاصل بين هؤلاء وأنماط عيشهم، وبين أولئك القادمين من بلدانهم الغارقة في الموت والخراب والعنف، حاملين معهم بؤساً وتعباً وخوفاً وقلقاً، ورغبةً في أمان مفقود.

لن يلتقي أفراد العائلة، التي يعمل رجالها ـ أباً عن جدّ ـ في صيد الأسماك، أياً من الوافدين الجدد، تماماً كما مُقدِّم البرنامج، على نقيض الطبيب، بياترو برتولو. فالفيلم يُتابع ما يجري على أرضِ الجزيرة كما يجري في الواقع، ويكتفي بتقديم هذين النموذجين، المتناقضين أحدهما عن الآخر، بتسليط الكاميرا على الناس ومسالكهم وأحاسيسهم، تاركاً للتوليف السينمائي مهمّة تشكيل البناء الدرامي والسينمائي والجمالي، مما يُتيح للمُشاهد فرصاً عديدة لاختراق المسكوت عنه، ولتبيان أشياء من المبطّن في ثنايا الصُوَر وروابطها ومساراتها، وفي أعماق الناس ومآزقهم وخبرياتهم، وفي المناخ العام للجزيرة أيضاً.

وهذا، إذْ يرتكز على بساطةٍ ظاهرة في تشغيل أدوات السينما كلّها، يعكس براعة الوثائقيّ في تفكيك الواقع، وإعادة بنائه وفقاً لهواجس المخرج، المنتشرة في متتاليات بصرية يُصوّرها بواقعية بحتة، جاعلاً البناء النهائيّ أقدر على البوح والتعبير، من أي كلام آخر. فلا تعليق صوتياً، ولا موسيقى تصويرية، ولا إسقاطات تقنية (مؤثّرات بصرية ـ سمعية خاصة)، بل بساطة شديدة توثّق اليوميّ، وترسم ملامح من واقعٍ أوروبي مرتبك.

والارتباك الأوروبي لن يكون نتيجة تدفّق يوميّ لعشرات آلاف اللاجئين إلى "لامبادوزا" فقط، لأن أحوال الناس في الجزيرة تثير قلقاً، وإنْ كان هؤلاء يبدون عاديين للغاية في عيشهم اليومي. فجيانفرانكو روزي يكشف معنى الشيخوخة مثلاً، وتفاصيل علاقات يومية، واضطراب المدخول المالي جرّاء الطقس الماطر. والتدفّق غير الشرعي مُربِكٌ للجزيرة وناسها، وللسلطات الأمنية فيها، وبالتالي لأوروبا برمّتها، مع أن روسي لم يشأ، منذ البداية، أن يخرج على الإطار الطبيعي للجزيرة وعوالمها وحكاياتها المختلفة، مستعيناً بالسينما لـ "تعزيز الواقع"، كما يقول، مُعلناً "كرهه" لكاميرا تتحرّك كثيراً، لهذا يزخر فيلمه بلقطات ثابتة طويلة، كأنه بها يريد التماهي شبه المطلق مع دقائق تلك الحياة اليومية، في تلك الجزيرة: "حصولي على الـ (كادر) الذي أريد، يجعلني أحاول سرد حكاية، عبر (كادر) مصنوع في منبعه".

هذا ما يجعل "نار في البحر" فيلماً وثائقياً بامتياز.


دلالات

المساهمون