ماياكوفسكي: لا تتهموا أحداً

ماياكوفسكي: لا تتهموا أحداً

18 ابريل 2015
ماياكوفسكي بتصوير ألكسندر رودينشكو، 1927
+ الخط -

عام 1957، أصدرت الشاعرة الفرنسية، إلزا تريولي (1896 ـ 1970)، في دار نشر صغيرة، كتاباً مرجعياً حول الشاعر الروسي، فلاديمير ماياكوفسكي (1893 ـ 1930)، حمل عنوان "شعر ونثر"، ويتضمن، إلى جانب مدخل طويل بعنوان "ذكريات" سردت فيه فصولاً من علاقتها بماياكوفسكي، ويعكس معرفة عميقة وشخصية بطباع الشاعر وعاداته ونبوغه؛ مختارات من نصوصه الشعرية والنثرية.

كتاب ضخم نفدت نسخه بسرعة ولم يعد طبعه، وبالتالي تشكّل إعادة نشره في باريس أخيراً عن دار "زمن الكرز" فرصةً لقراءة ماياكوفسكي بلغة و"عينيّ إلزا" اللتين أوحتا لزوجها أراغون بأحد أجمل كتبه وأشهرها.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أنه رغم امتلاكنا اليوم فكرةً واضحة وكاملة عن المشهد الشعري الروسي في بداية القرن العشرين، بفضل الترجمات الغزيرة لنصوص ماياكوفسكي وإيسينين وبلوك وماندلشتام وأخماتوفا وباسترناك وتسفيتاييفا، إلا أن صورة ماياكوفسكي لا تزال حتى اليوم غامضة.

ولعل السبب يعود إلى مُثُله الثورية والسوفييتية التي لم ينكرها أبداً، رغم الإهانات التي تعرّض لها في المرحلة الأخيرة من حياته على يد رفاقه الشيوعيين؛ إهانات لم تعد مسموعة اليوم حيث يبقى التمرّد ثوباً ضرورياً للشاعر، شرط اختياره من المتجر الصحيح.

تقديم إلزا صديقها في "شعر ونثر" إيجابي ومتين إلى أبعد حدود، في الوقت الذي ما زالت، هي، تتعرّض إلى نوعٍ من النفور في بلدها. لكن كما أننا لا نُحَبّ دائماً لأسباب موضوعية، فإننا لا نُكرَه دائماً لأسباب موضوعية.

المهم توضيحه أن إلزا لا تسعى في مقدّمتها إلى كتابة سيرة ماياكوفسكي (لا حاجة لذلك، طالما أنها تبدأ مختاراتها بالسيرة الذاتية القصيرة، التي وضعها الشاعر بنفسه تحت عنوان "أنا بالذات") بقدر ما تسعى إلى تحديد ظروف انبثاق كتاباته، ومنحنا باقة من ذكرياتها معه. ونقدّر قيمة هذا المسعى حين نعرف أن إلزا هي جزء لا يتجزأ من دائرة أصدقاء الشاعر الحميمة والضيّقة، وأن الاثنين عاشا قصة حب قصيرة، قبل أن تظهر في حياة ماياكوفسي أخت إلزا البكر، ليلي بريك، الموحية الراديكالية.

وبالتالي، امتلكت إلزا عن الشاعر معلومات ثمينة، وإن تمتّعت في مقدّمتها بلياقة في عملية كشفها، محترمةً حرفياً كلمات صديقها الأخيرة: "أموت، لا تتّهموا أحداً بذلك [...] لا فائدة من تفحّص الآلام، والشقاء، والأذى المتبادَل...".

ورغم هذه اللياقة، ثمة خيطٌ موجِّه وخفي في الكتاب: الرغبة في الدفاع عن ماياكوفسكي بواسطة نصوصه، في وجه الإنكار الروسي له بعد وفاته، والجهل أو الحذر الفرنسي منه. دفاع عبر إعادة تشييد ذاكرته، كما ستفعل لاحقاً الكاتبة، ناديدجا، مع زوجها، أوسيب ماندلشتام، لكن بظروفٍ أكثر صعوبة، كما لو أن القدر يمنح كل شاعر كبير "أنتيغونا" تسهر على صورته وإنجازاته!

ولادة ماياكوفسكي عام 1893 وطبيعة شخصيته ستجعلان منه رمزاً قوياً للشباب الروسي الذي انساق بحماسة داخل الغليان الفكري، الذي سبق ورافق أحداث 1918 الكبرى في روسيا، حماسة مدوخة للمستقبل، تبدو الحالات الثورية التي عرفتها فرنسا قبل ذلك، باهتة، مقارنةً بها، حماسة لن يأخذ الشاعر يوماً أي مسافة منها، فالثورة كانت ثورته.

ولذلك، كان من المتعذّر أن تنتهي الأمور معه بطريقة غير عنيفة، هو الذي كرّس حياته للنضال ضد الرتابة الهانئة للحياة البورجوازية ومظاهرها، وتمتّع بشخصية غير توافقية؛ الشاعر طويل القامة بإفراط، والخشن بإفراط، الذي لم يكن يداري أحداً، بما في ذلك رفاقه؛ الشاعر الذي لم ينضج عاطفياً، لكن المحبوب بإفراط من الشعب البسيط، الذي أراد أن يكون شاعره، ونجح في ذلك.

وحول النقطة الأخيرة، كتب في آخر خطاب له: "يؤنّبني الهواة: كنتَ تكتبُ أبيات شعرية جميلة للغاية، مثل (غيمة في بنطال)، وفجأةً بدأتَ تفعل أشياء من هذا النوع!". لطالما كتبتُ أن ثمة شعراً ذا جانب هندسي، مجهّزاً تقنياً، وثمة أيضاً شعراً جماهيرياً، بأدوات الطبقة العاملة. لم أعمل أبداً كيفما اتّفق، طالما أن ذلك يأتي بالثمار المرجوّة، لكنني لم أرفض يوماً كتابة قصيدة حول موضوع راهن، سواء كان ذلك عن الفلاح، عن المدرسة، أو عن جلود الأرانب الصغيرة في غوستورغ".

لكن في 14 مارس/آذار 1930، سيضع الشاعر حداً لحياته بعد أن فقد الأمل - كما قيل - في إمكانية تطوُّرٍ حرّ لفنٍّ طلائعي في الاتحاد السوفييتي.

تعبّر إلزا مراراً في كتابها عن أسفٍ لعجزها عن منح صوت ماياكوفسكي الفريد التكريم الذي يستحقّه، علماً بأن ترجمتها أمينة وجميلة، مقارنةً بترجمات أخرى متوفّرة. وفي عدد محدود من النصوص، نستشعر صوت أراغون خلف ترجمة إلزا.

ولا نقصد بهذه الملاحظة أن نقول إن أراغون كان يمسك بيد زوجته أثناء عملها على هذه النصوص، فأي مترجم يعمل ببطءٍ، داخل التقديرات والتردّدات، ولا شك في أن الزوجين ناقشا بعض الصعوبات في الترجمة، وأن أراغون قدّم بعض الاقتراحات التي يمكن تقريبها بقوة من نبرة المقاطع التي ترجمها شخصياً لبوشكين داخل "الأنطولوجيا" التي وضعتها إلزا وصدرت عام 1965.

إلى جانب السيرة الذاتية "أنا بالذات" والقصائد المختارة، تحتل نصوص ماياكوفسكي النثرية نصف الكتاب، من بينها نذكر خصوصاً بحثه الشهير "كيف نصنع أبياتاً شعرية"، الذي يلعب الشاعر فيه دور المنظِّر، وتبدو معظم نظرياته مستمدّة من تجربته الشعرية بالذات، كما في الملاحظة التالية: "الإيقاع هو القوة الأساسية، الطاقة الجوهرية في البيت الشعري".

ولا تُهمِل إلزا نصوص ماياكوفسكي المسرحية الأربعة، التي كتبها بين عامَي 1913 و1930، وخصوصاً نص "الحمّامات" الذي يحضر كاملاً في نهاية الكتاب، باستثناء بعض التعبيرات الصوتية التي تتعذّر ترجمتها؛ وهو نصٌّ يهاجم ماياكوفسكي فيه بمتعةٍ وحشية موظّفي الدولة وكوادرها، ويستحضر جملة في مقدّمة إلزا:

"اضطهدوه حتى وفاته. كانت كتبه وبورتريهاته تُنزَع من المكتبات... أحد الموظّفين الصغار قال لي يوماً، في (مؤتمر الكتّاب)، في موسكو، عام 1934، حين أنّبته على حذف اسم ماياكوفسكي من مقال، كما لو أن هذا الاسم عارٌ: (ثمة عبادة لماياكوفسكي، ونحن نناضل ضد هذه العبادة)".

وفي ملاحظة في أسفل الصفحة، كتبت إلزا: "كانت عبارة (عبادة ماياكوفسكي) قد أصبحت غريبة عام 1939، حين كتبتُ هذه الذكريات. اليوم تبدو ساخرة بمرارة". اليوم يعني عام صدور كتابها (1957). أما اليوم فعلياً، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على صدوره، لم يفقد هذا الكتاب، المشيّد على شكل مرافعة ضارية، شيئاً من نضارته.. وضراوته.

المساهمون